بحث هذه المدونة الإلكترونية

المشترك اللفظي:


تعد ظاهرة المشترك اللفظي (مثلها في ذلك مثل الترادف) مشكلة من المشاكل الدلالية، لكونها تسير خلافا للوضع المثالي للغة الذي يقتضي أن يكون للفظ الواحد معنى واحد، وللمعنى الواحد لفظ واحد. وسنشرح فيما سيأتي آراء كل من علماء أصول الفقه، واللسانيين الغربيين، ولغويي التراث في ظاهرة المشترك اللفظي.

1- المشترك عند علماء أصول الفقه الإسلامي:

يفرق الأصوليون عادة بين ثلاثة مصطلحات تتعلق بالمشترك اللفظي: المشترك، والمنقول، والمستعار. فالمشترك وفقا للغزالي هو ما "وضع بالوضع الأول مشتركا للمعنيين لا على أنه استحقه أحد المسميين، ثم نقل عنه إلى غيره"[1] أي أنه اللفظ الموضوع لمعنيين على التساوي في الاستحقاق، دون أن يكون أحد المعنيين بأولى من الآخر في ارتباطه بذلك اللفظ. ومن أمثلته لفظ ‘العين’ الذي يدل على ينبوع الماء والدينار وقرص الشمس دون أن يكون هناك صلة واضحة بين هذه المعاني الثلاثة تدعو إلى القول بأن اللفظ وضع لأحدها ثم نقل إلى الآخرين أو إلى أحدهما بحكم علاقة تجمع بينها. فكل واحد من هذه المعاني الثلاثة يستحق لفظ العين على التساوي.

أما المنقول فهو الاسم المنقول عن موضوعه الأول "إلى معنى ويجعل اسما ثابتا دائما، ويستعمل أيضا في الأول فيصير مشتركا بينهما"[2] أي أنه لفظ نقل عن مسماه إلى مسمى آخر على سبيل الثبات لعلاقة بينهما، ثم استخدم في المعنيين معا. ومن أمثلته ‘الصلاة’ و‘الحج’ حيث دل الأول بالوضع على مطلق الدعاء، ثم نقل للدلالة على هيئة الصلاة الإسلامية المخصوصة، ودل الثاني بالوضع على القصد ثم نقل إلى هيئة الحج الإسلامي المخصوص (المؤلف من إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة). وعلى الرغم من دلالة المنقول على المعنين فإن أحدهما أكثر استحقاقا له من الآخر بحكم كونه وضع له، فالصلاة وضعت للدعاء ثم نقلت إلى الصلاة الإسلامية المعروفة، والحج وضع للقصد ثم نقل إلى هيئة الحج الإسلامي.

وأما المستعار فهو الاسم المنقول مؤقتا إلى غير ما وضع له لعلاقة بينهما. وقد عرفه الغزالي بأنه "أن يكون اسم دالا على ذات الشيء بالوضع، ودائما من أول الوضع إلى الآن، ولكن يلقب به في بعض الأحوال لا على الدوام شيء آخر لمناسبته للأول على وجه من وجوه المناسبات من غي أن يجعل ذاتيا للثاني وثابتا عليه ومنقولا إليه"[3]. ومن أمثلته لفظ أم الذي وضع للوالدة ثم استعير للأرض فقيل أم البشر، والجناح الذي وضع للعضو الذي يساعد الطائر على الطيران، ثم استعير للذل في قوله تعالى: "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" ( ). ومنه أيضا "رأس المال، وجه النهار، عين الماء، حاجب الشمس، أنف الجبل"[4].

وكما هو واضح فإن الفرق بين المشترك من جهة والمنقول والمستعار من جهة أخرى هو أن المشترك لا وجود لعلاقة بين معنييه (أو معانيه)، أي أن كلا معنييه حقيقة، في حين أن معنيي (أو معاني) المنقول والمستعار يرتبطان بعلاقة مجازية. أما الفرق بين المنقول والمستعار فهو أن النقل ثابت في المنقول ومؤقت في المستعار.

2- المشترك عند الغربيين:

بينما يميز الأصوليون بين ثلاثة أنواع من المشترك كما تقدم في المبحث السابق- يفرق اللسانيون الغربيون بين نوعين فقط هما التماثل اللفظي homonymy والتعدد المعنوي polysemy،. فالأول هو المعادل للمشترك عند الأصوليين حيث يكون للفظ الواحد معنيان لم يكن أحدهما ناشئا عن تطور في استخدام اللفظ، وقد سميت هذه الظاهرة بالتماثل اللفظي لأنهم يفترضون أن ثمة لفظين وضع كل منهما لمعنى ولكن صادف أن كان اللفظان متماثلين، ولذا فإنهما يعطيان مدخلين مختلفين في المعجم ولا يعاملان معاملة العجمة lexeme الواحدة. ويمثل للتماثل اللفظي بنحو bank1 بمعنى مصرف وbank2 بمعنى ضفة النهر؛ إذ لا علاقة بين المعنيين، ومن أمثلته في العربية كلمة خال التي تطلق على أخي الأم، وعلى الحبة السوداء في الخد، وعلى لواء الجيش . أما الثاني فيطلق على "الحالات التي تتعدد فيها مدلولات الكلمة الواحدة"[5] كما في كلمة رقبة neck التي تعني جزءا من الجسم، وجزءا من الثوب، وجزءا من الزجاجة، وشقة ضيقة من الأرض.[6] ومن الواضح أن كل هذه المعاني متقاربة تجمع بينها علاقات مجازية.

والمعيار الذي ينبغي أن يراعى دائما في التفريق بين التماثل اللفظي والتعدد المعنوي هو التقارب المعنوي relatedness of meaning. فإذا تقاربت معاني اللفظ الواحد فإن الكلمة الدالة على تلك المعاني تعد من قبيل المشترك المتعدد المعنى polysemous. وإذا انقطعت معاني اللفظ بعضها عن بعض، فالكلمة من المشترك المتماثل اللفظ homonymous.

3- المشترك عند لغويي العربية:

يطلق لغويو العربية القدماء مصطلح المشترك اللفظي على كل أنواع اللفظ الذي يدل على أكثر من معنى، سواء أتقاربت معانيه أم اختلفت. ويترتب على ذلك أن كل معاني كلمات ‘عين’ الموجودة في المعاجم تعد من قبيل المشترك وتعطى مدخلا معجميا واحدا في المعاجم سواء تلك التي تقاربت معانيها مثل الجاسوس والعضو الباصر وفم القربة، أو تلك التي ليس لها صلة بهذه المعاني مثل الاعوجاج في الميزان، والمطر الذي يجيء ولا يقلع أياما، والسحابة التي تأتي من جهة القبلة.

والظاهر أن علماء الأصول تفوقوا على اللغويين القدماء في البحث في المشترك اللفظي بتفريقه الدقيق بين المشترك والمنقول، وهو تفريق يدعو إلى ضرورة إعطاء مداخل معجمية للمشترك اللفظي الحقيقي تبعا لعدد المعاني التي يدل عليها في حين يكتفى بمدخل معجمي واحد للمنقول. أما المستعار فلا يدوّن عادة في المعاجم إلا إذا أصبح من الاستعارات الميتة، وبذلك يصبح من المنقول.

4- أسباب وقوع المشترك اللفظي:

يرجع اللغويون وقوع المشترك إلى أسباب جغرافية وتاريخية نلخصها فيما يأتي:

أولا: الأسباب جغرافية: يذكر أبو علي الفارسي أن تداخل اللغات (يقصد اللهجات العربية) سبب من أسباب وقوع الاشتراك في العربية، وينفي أن يقع في لهجة واحدة.

ثانيا: الأسباب التاريخية: لعل أشهر من علل ظاهرة الاشتراك على أساسي تطور صوتي هو اللغوي إبراهيم أنيس، فقد حاول أن يفسر كلمات مثل ‘السغب’ (في دلالتها على الوسخ والدرن، وكذلك القحط والجوع) بالقول إنها "تطورت في لهجة من اللهجات، ولظرف من الظروف الخاصة، حتى أصبحت (التغب) من المشترك اللفظي" مستأنسا في ذلك بما تفعله بعض القبائل اليمنية حين تقلب السين تاء، كما في قولهم ‘النات’ بدلا من ‘الناس’. ثم "جاء جامعو المعاجم ونسبوا معنيين مختلفين لكلمة (التغب)، وعدوها من المشترك اللفظي".[7]

وبغض النظر عما إذا كان إبراهيم أنيس قد وفق أو وأخفق في معرفة السبب الحقيقي الذي جعل كلمة السغب’ ونحوها من المشتركات اللفظية، فإن المنهج الذي اتبعه في الوصول إلى ذلك إنما هو منهج تأثيلي غير موضوعي يعتمد على الحس الشخصي، ولا يشركه فيه المختصون في اللغة.

ويذكر بعض اللغويين ومنهم أبو علي الفارسي أن المجاز أحد أسباب وقوع المشترك اللفظي، وهذا رأي غير مقبول إذا سلمنا بالتفريق بين المشترك والمنقول، لأن المعاني المجازية التي يرتبط بها اللفظ إنما نشأن عن تطوره والتوسع فيها فنقل اللفظ إليها، وليست بأي حال مما تساوت فيه المعاني في استحقاق اللفظ كما أوضحنا.


[1] الغزالي، معيار العلم، ص 56-7.

[2] الغزالي، معيار العلم، ص 56.

[3] الغزالي، معيار العلم، ص 56.

[4] الغزالي، معيار العلم، ص 57-8.

[5] أولمان، دور الكلمة في اللغة، ص114.

[6] Lyons, Language, p147.

[7] إبراهيم أنيس، في اللهجات العربية، ص201.

4- نظرية أفعال الكلام


تنسب نظرية أفعال الكلام إلى أوستن J. L. Austin ، وقد جمعت محاضراته التي ألقاها في جامعة هارفرد سنة 1955 في كتاب سمي ‘كيف تفعل الأشياء بالكلمات’، ثم قام جون سيرل John R. Searle وغيره من البراغماتيين بتطوير هذه النظرية أثناء السبعينيات والثمانينيات.

تقوم نظرية أفعال الكلام Theory of speech acts على النظر إلى اللغة على أنها أداء أعمال مختلفة في آن واحد، وما القول إلا واحد منها، فعندما يتحدث المتكلم فإنه في الواقع يخبر عن شيء، أو يصرّح تصريحا ما، أو يأمر، أو ينهى، أو يلتمس، أو يَعد، أو يشكر، أو يعتذر، أو يحذّر، أو يدعو، أو يسمي، أو يستغفر، أو يسبح، أو يمدح، أو يذم، أو يحمد الله، أو يعقد صفقة تجارية، أو يتزوج، أو يطلق، إلخ.

وتنظر نظرية أفعال الكلام إلى عملية التخاطب على أنها مخاطبة مرتبطة بموقف تعبر عنه، فالطلب يعبر عن رغبة في شيء ما، والمدح يعبر عن رضى، والشكر يعبر عن امتنان، والاعتذار يعبر عن ندم. ويقاس نجاح التخاطب وفقا لهذه النظرية بمدى اكتشاف المتلقي للموقف المعبر عنه من خلال فهم مقصد المتكلم.

وقد قسم أوستن أفعال الكلام ثلاثة أقسام:

أ‌- الفعل اللفظي Locutionary act ويقصد به عملية النطق بالجملة المفيدة التي تتفق مع قواعد اللغة.

ب‌- الفعل غير اللفظي illocutionary act ويراد به الفعل الذي يقصده المتكلم بالجملة، كالأمر أو النصيحة.

ت‌- الفعل المترتب عن النطق perlocutionary act وهو التأثير الذي يكون للفعل اللغوي في المتلقي، كطاعة الأمر، أو الاقتناع بالنصيحة، أو تصديق المتكلم أو تكذيبه.

وقد لفتت هذه النظرية الانتباه إلى أن اللغة ليست للإخبار ونقل الأفكار فقط، بل تؤدي أيضا وظيفة التأثير الاجتماعي في الآخرين عبر ما يعرف بصيغ العقود أو الصيغ الإنشائية. ويميز عادة بين نوعين من هذه الصيغ: صيغ الأحكام وصيغ الإنجاز، ومن الأولى أحكام المحكّمين، والفتاوى، ونحوها، ومن الأخرى صيغ العقود كقول المطلق لزوجته ‘طلّقتك’ أو ‘أنت طالق’، وقول من أراد أن يتزوج "قبلت’ عند عقده للنكاح، وقول البائع ‘بعت’ والمشتري ‘اشتريت،.ومنها أيضا قرارات التعيين، والنطق بالحكم بالسجن ونحوه. ولا تكون هذه الصيغ نافذة إلا إذا صدرت من متكلم معين لمخاطب معين في زمن معين ومكان معين وظرف معين.

وتعنى نظرية أفعال الكلام بتصنيف أفعال الكلام إلى أنواع كالتفريق بين أفعال الكلام المباشرة وغير المباشرة، والوضعية والتخاطبية، والحرفية وغير الحرفية، ودراسة طرائق نجاح تلك الأفعال وإخفاقها، وتغير معاني الجمل تبعا للسياق كتحوّل الخبر إلى إنشاء مثلا.[1]

ومن الاختبارات التي وضعها أوستن للتمييز بين الجمل الوصفية (أو الخبرية) والإنشائية أن المتكلم بقوله (1) مثلا لا يشغّل محرّك السيارة، وأما بقوله (2) فهو يعد، وبقوله (3) فهو يشكر إلخ.

(1) أشغّل محرك السيارة.

(2) أعدك بزيارة أخرى.

(3) أشكرك على حسن الضيافة.

ومن خصائص صيغ العقود أن ضمير الفعل الأساسي فيها (أو ما يقوم مقامه) إنما هو ضمير المتكلم عادة، وإن كانت هناك أمثلة تخرج عن هذا الأصل كما في (4).

(4) أنت طالق.

ومن التقسيمات التي جاءت بها نظرية أفعال الكلام التفريق الثلاثي بين

أ‌- الجمل الخبرية declarative sentences، التي تستعمل للإعلانات، والتصريحات، والدعاوى، وسرد القصص ونحوها،

ب‌- والاستفهامية interrogative، التي تستخدم لطلب إجابة لفظية من المخاطب،

ت‌- والطلبية التي تدل على رغبة المتكلم في التأثير على الأفعال المستقبلة، وتستخدم للطلبات وإصدار الأوامر، والاقتراحات، ونحوها.[2]


[1] للتوسع في دراسة هذه النظرية يمكن الرجوع إلى:

Austin, J. L. (1962) How to Do Things with Words, Cambridge, Mass.: Harvard University Press.

Searle, J. (1969) Speech Acts: An Essay in the Philosophy of Language, Cambridge, Eng.: Cambridge University Press

Strawson, P. F. (1964) 'Intention and convention in speech acts', Philosophical Review 73: 439-60.

Tsohatzidis, S. L., ed. (1994) Foundations of Speech Act Theory: Philosophical and Linguistic Perspectives, London: Routledge.

[2] Sadock and Zwicky (1985: 160)

الجديد في منتديات تخاطب