أيام في حياتي (4)
8/7/2009 by محمد محمد يونس علي
على الرغم من التنوّع المعرفي والثقافي الذي عرفته في دراستي الابتدائيّة، كانت الحياة الدراسيّة قاسية على طفل في بداية مشواره التعليمي؛ إذ لم تكن تشتمل على أي عنصر من عناصر التسلية؛ ولذا كان علينا عندما نبلغ الحدّ الأقصى من الملل أن نضحّي بغذائنا ونلغي رحلة الذهاب إلى المطعم، ونذهب –بدلا من ذلك- للتّجوّل في شارع الاستقلال (شارع امحمد المقريف حاليًّا) أو شارع أوّل سبتمبر، أو غيرهما من شوارع المدينة، وقد كنت مغرمًا إغرامًا شديدًا بمراقبة السيّاح الذين كانوا يتوافدون أفواجًا على طرابلس عروس البحر من كلّ صوب، وهم يحملون حقائبهم على ظهورهم، وآلات التصوير بأيديهم، وكنت أقف أحيانًا بجوار الخريطة الإلكترونيّة الموضوعة على حائط السراي الحمراء؛ لإرشاد السيّاح إلى المعالم السياحيّة، والشوارع والمرافق التي قد يحتاجون إليها، وكثيرا ما كنت أتسلّى بتلك الخريطة بوضع يدي على أحد أزرارها لأرى المصباح المضيء يؤشر إلى موقع المكان الذي ضغطت على الزر الذي يحمل اسمه، وهو ما يشعرني بنشوة حالمة تعوّض شيئا من التسلية المفقودة في عالم الطفولة الموجّهة.
كنت فعلا أشعر بأني أحمل أثقال جبل من الهمّ المستمر زاد من حجمه وفاة والدتي قبل دخولي المدرسة بسنة واحدة تقريبًا. كان علي إذن أن أخفّف من حمل جبل الهمّ بانتظار قدوم الصيف للسفر إلى جبل المتعة والتسلية حيث موطن آبائي وأجدادي.
عندما يحين موعد صباح يوم السفر إلى الجبل كنا نتسابق في القيام من النوم فنبدأ بملء الصندوق الأمامي للفولكس بأغراضنا التي نحتاج إليها فضلا عن الهدايا وأنواع الأطعمة التي ستقدّم لأقاربنا هناك.
تبدأ رحلتنا بالتوجّه إلى طريق السواني المظلّل بأشجار السرول التي تعانق أعنان السماء، فكانت توفّر لنا مظلّة واقية من شمس صباح الصيف الحارّة، ثم يدبّ إلينا الخمول شيئًا فشيئًا فيخلد معظمنا إلى النوم، ولايستيقظ إلا على لفحات شمس العزيزية المحرقة، وعلى الرغم من قساوة الجوّ فإننا نستحسن الأمر؛ لأن إيقاظنا يعني أننا سنستمتع برؤية جبل "أبوغيلان"، وهو أوّل جبل نتسلّقه بعد أن نخرج من سهل العزيزيّة والسهول المجاورة. يبدو طريق "أبوغيلان" للناظر من بعيد كالأفعى الضخمة الملتويّة على سنحات الجبل، وهو منظر يكفي لإثارتي أنا وإخوتي الذين تكتظ بهم سيّرة الفولكس واجن. وما إن تبدأ السيّارة بتسلّق الجبل حتى نبدأ بوضع أيدينا على قلوبنا خوفًا ورهبةً من السقوط، وخصوصا أن الطريق ضيّقة لا تسمح بالقدر الكافي من المناورة إذا ما حدث أن ضايقتنا سيّرة أو حافلة أو شاحنة من الاتجاه المقابل؛ ولذا فإنّ شبح التدحرج من أعلى الجبل كان دائما هاجسا مخيفا بالنسبة إلينا مع أنّه عمليًّا نادر الحدوث.
عندما نصل قمة الجبل نشعر حينئذ أننا وصلنا منتصف الطريق، وهو النصف الأكثر إثارة؛ لأنه يتيح لنا رؤية مناظر متنوعة من الجبال والهضاب والوديان والسهول الخضراء منها والمجدبة، غير أنّ متعتنا لا تكتمل إلا بالمشارفة على منطقة ككلة التابعة لسلسلة جبال نفوسة التاريخيّة موطن آبائي وأجدادي حيث عثر على أقدم درهم إسلامي حتى الآن، وحيث وقعت المعركة الفاصلة بين سكان الجبل الغربي والأتراك.
عندما نصل إلى الجبل ننزل عادة في منزل جدي القديم الواقع في وسط البلد، يتألف البيت من غرفة تقليديّة قديمة تحتوي على سدّة تستخدم للنوم، ومخزن تحت تلك السدة لتخزين الطعام، أما الشطر الآخر من الغرفة فمخصص للجلوس، غير أن ما يميّزه تلك الكوّات الرائعة الموجودة في الحيطان، وقد زاد تعدد أحجامها على نحو منسّق من جمالها وفرادتها، وعند خروجك من تلك الغرفة تجد مطبخا متواضعًا على يمينك، وغرفتين أخريين مقابلتين تستخدمان للجلوس واستقبال الضيوف من النساء، ومع أنهما أحدث زمانا من غرفة النوم غير أنهما كئيبتان، وتفتقدان إلى خصوصيّة التصميم التي تنفرد به غرفة النوم.
أمّا غرفة ضيوف الرجال فقد كانت آية في الجمال والاتساع، وهي بحكم العادات والتقاليد تقع خارج المنزل، وتبعد عدة أمتار منه. عندما تدخل تلك الغرفة المسماة بـ "مربوعة يونس" (نسبة إلى جدي) لاتملك إلا أن تعجب بعمارتها المتفرّدة، فقد زُيّنت بأعمدة وأقواس ذات طابع إسلامي، وحُفر في حوائطها كُوّات متباعدة قليلا تستخدم عادة لبرّدات مياه الشرب المصنوعة من الفخار الطبيعي، وقد تُعلّق فيها الدفوف التي كانت تستخدم قديما في إقامة الحضاري. لقد كانت تلك الغرفة مبعث فخر لجدّي؛ لأنها تستخدم مأوى للضيوف والقادمين على البلد من مناطق مختلفة، وهي بكلّ المقاييس متفرّدة في ذلك المكان من العالم الذي يغلب عليه في ذلك الوقت طابع العوز والفقر. كان جدّي يملك أكبر المتاجر في ذلك الوقت، وقد أسّسه بعد أن تخلّص من تجارة الحلفاء، وباع ما يعرف بـ "شطار الحلفاء" الذي كان يملكه، ويدرّ عليه ما يسدّ حاجته من متطلّبات الحياة.
عندما نصل إلى منزل الجدّ، تبدأ عمّاتي وأولادهم ذكورا وإناثًا يتوافدون علينا مرحّبين مهنّئين بسلامة الوصول، وكانت أولى الواصلات عادة عمة شقيقة لوالدي، وأخرى أخته لأمه فقط، وكلتاهما متزوجة من ابن عمّ لوالدي، وهما على أي حال أقرب الأقارب لأبي، كان يوم الوصول عادة يوم البقاء في البيت للمشاركة في السمر والأحاديث. وفي صباح اليوم الثاني تبدأ رحلة المغامرة مع أبناء الجبل حيث نبدأ بالخروج والنزول إلى الوديان، والتنقّل من مكان إلى آخر بين سفوح الهضاب والجبال غير مبالين بصعوبتها ووعورتها. وكانت لبيت عمتي حمارة مثابرة نستخدمها في رحلاتنا المثيرة، وهي تبدو سعيدة باستضافتنا على ظهرها على الرغم من قسوتنا عليها وقلة مبالاتنا بها، وكـأننا لم نتعلّم أخلاق الرفق بالحيوان، مع أنني أتذكر وأحفظ عن ظهر قلب حديث المرأة التي عذبت الهرة فدخلت بسببها النار، لقد حفظته في سن الخامسة عندما كنت أرافق أبي إلى المدرسة التي يدرس فيها قبل التحاقي الرسمي بالتعليم الابتدائي.
كنّا نتناوب على ركوب ظهر المسكينة غير آبهين بسلامتنا، ولا مدركين لخطورة الأمر، ولاسيما عند صعود الجبال وهبوطها، أو السير في الحافّات الصخريّة التي نجعل منها طريقًا للالتفاف على الجبال والتنقل فيما بينها، وكثيرا ما تشرف تلك الجبال على هوّات سحيقة لو سقطنا منها لقضي علينا إلى الأبد، ولكنّ الله سلّم والحمد لله.
كان عددنا في الغالب ستة يشمل ثلاثة أزواج من الأخوة، وكان يجمع بيننا حبّ شديد، وتعلّق قوي عزّزه الشعور المتبادل بانتمائنا إلى عائلة واحدة، مع وجود تفاوت بيننا في مدى قوّة هذا التعلّق، حيث ينزع كل من أبناء عمومتنا على تفضيلنا نحن عن غيرنا من أقاربهم المجاورين لهم، وهو أمر مفهوم بحكم ما يحدث من احتكاك يومي بينهم كثيرا ما يترك شيئا من الامتعاض والاستهجان، ولاسيما إذا قارنهما شيء من الحسد.
تبدأ رحلتنا على هذا النحو في كل صباح تقريبا، ولاتنتهي إلا مع حلول الغروب، عندها فقط نكون قد وصلنا إلى الحيّ، ولا ننسى حينها أننا لم نتناول غذاء كافيا؛ إذ أن أحشاءنا تتضوّر جوعا، ولا يسمع فيها غير أصوات الزقزقة المعبرة عن فراغها من كل مأكول ومشروب بسبب غيابنا عن بيوتنا. لاشك أنها لحظات لا تنسى، ولعلّ ما جعلها كذلك أنّ وصولنا عادة يرتبط بموعد إعداد خبز التنور المفضلة لديّ، حيث تبدأ رحلتها الجذّابة تتسلّل إلى أنوفنا بمجرّد اقترابنا من بيوتنا، كانت تلك الرائحة كفيلة بالموافقة على قبول دعوات أبناء العمومة لتناول العشاء معهم، وهو عادة ما يكون طبيخًا مكوّناته الطبيعيّة من خضروات ولحوم وطنيّة وتوابل تمنحه مذاقا خاصا لا يقاوم، تعقبه عادة باقة من الفواكه وبخاصة البطيخ والشمام والتين والعنب.
بعد مرور أيّام من إقامتنا في بيت الجدّ كان والدي يأخذنا إلى عمّتي الكبرى شقيقته وأحب أخواته إليه التي تقطن في منطقة منزويّة تبعد عن بيت الجدّ بنحو كيلو متر ونصف، وعلى بعد مئات الأمتار من الضفة الأخرى من الوادي الذي يطل عليه منزل الجدّ.
كانت عمّتي تبالغ في إكرامنا، فتقدّم إلينا عند الصباح خبز التّنّور مع حليب الماعز الشهيّ، وكمّية كافية من الشكشوكة. كان بيتها صغيرا جدًّا يعكس حالة الفقر الذي تعاني منه، ولكنها كانت محظوظة عندما انتقلت إلى بيتها الجديد، وهو بيت فسيح له حديقتان واحدة أماميّة وأخرى خلفيّة، فضلا عن غرف متعددة لم يظفر بها غيرها من الفقراء، ولعلّه كان أفضل مشاريع الإسكان التي أقامتها الدولة.
شجّع ذلك المشروع بقيّة سكّان الحي القديم (أو البلاد كما يحلو لهم أن يسموها) على الانتقال إلى مشروع الإسكان الذي أقامته الدولة في منطقة الظهرة، وقرّب هذا من المسافة بين أولاد عماتي حيث أصبحت منازلهم متقاربة، وصاروا يستمتعون بالسكن في البيوت الحديثة التي شيّدوها بمجهوداتهم الذاتية أو بتسهيلات مصرفيّة. ولاشك أن هذا كان يبعث فيهم السعادة والسرور، ولكنه انعكس سلبا على جاذبيّة الجبل بالنسبة إلي، فقدْ فقدَ التفرّد الذي كانت تتميز به البيوت القديمة المتقاربة المتراصة بعضها ببعض، وقد أدّى هذا إلى قلّة تردّدي على الجبل، وإن كانت هناك أسباب أخرى لخفوت جاذبيّة الجبل، ولعلّ من أهمها تغيّر مكان الدراسة بعد أن أنهيت دراستي الابتدائيّة، وانتقلت إلى معهد مالك بن أنس الديني بمنطقة الظهرة، حيث بدأت أشعر بطعم الحياة اللذيذ، وصار لديّ متنفّس لممارسة هواياتي، بما فيها الذهاب إلى المدينة الرياضية لمشاهدة مباريات كرة القدم. وقد كنت مشجّعًا متحمّسًا لفريق الاتحاد، ولا أذكر أنّني أفوّت مشاهدة مباراة واحدة يكون الاتحاد طرفًا فيها. كل ذلك لم يكن ليحدث لولا أن نظام الدراسة في المعهد الديني مقتصر على الفترة الصباحيّة فقط، ولولا أنّ طريقة التدريس تعتمد على الفهم وليس الحفظ خلافا لما كان عليه الأمر في المدرسة القرآنية، كما أنّ أسئلة الامتحان يغلب عليها طابع اختبار الفهم، وليس التحصيل، وربما كان الأهم من ذلك كلّه أنّ المناهج المقرّرة، وإن كنت كتبا تراثية في مجملها غير أنها كانت بعيدة عن الحشو، وتتسم بتنظيم الأفكار وترتيبها ، والاعتماد على اللغة الاصطلاحيّة العلميّة على طريقة القدماء في التأليف والتصنيف، وقد أدّى هذا إلى توسيع مداركي العقليّة، وتنوّع معارفي، وتنمية قدراتي النقديّة والتحليليّة، وزاد من شغفي بالعلم وأهله.
شكرا على القصة الحلوة ومعروفة ككله بجوها الجبلي وصعوبة جبالها وتاريخها المشرف ضد الاتراك والطليان وياريت من خوتنا ان يعرفوا بتاريخ هذه المنطقة للاخرين لان الكثير من الليبيين لا يعرف اين تقع ككله