الفرق بين علم الدلالة و علم التخاطب
6/7/2009 by محمد محمد يونس علي
لقد أضحى من المسلم به في الدراسات اللسانية أنه لا يمكن الحديث عن علم الدلالة دون موازنته بما يسمى عند الغربيين بالبراغماتية pragmatics ، وهو ما يمكن ترجمته حرفيا بعلم الاستعمال، وإن كانت ترجمته بعلم التخاطب أكثر قبولا. ونظرا إلى هذه الصلة الوثيقة بين علمي الدلالة والتخاطب، فلعله من المناسب أن نقدم نبذة موجزة عن كل منهما.
1- علم الدلالة
وضع مصطلح علم الدلالة semantics اللساني المشهور بريال Breal للمجال الذي يعنى بتحليل المعنى الحرفي للألفاظ اللغوية ووصفها. ولا تقتصر اهتماماته على الجوانب المعجمية من المعنى فقط بل تشمل أيضا الجوانب القواعدية. وكذا فإن مباحثه لا تقتصر على معاني الكلمات فقط، بل تشمل أيضا معاني الجمل، وإن كان اللسانيون يميلون في فترة ما قبل الثمانينيات إلى الاقتصار على معالجة المعاني المعجمية للمفردات فقط دون أن يتطرقوا تطرقا كافيا للعناصر القواعدية وبنى الجمل، وكان لتطور النحو التوليدي دور بارز في توسيع مفهوم علم الدلالة البنيوي المعجمي ليشمل مباحث تتصل بعلم دلالة الجملة sentence semantics.
وهكذا فإن من الموضوعات التي يتناولها هذا العلم:
أ- البنية الدلالية للمفردات اللغوية.
ب- العلاقة الدلالية بين المفردات كالترادف والتضاد.
ت- المعنى الكامل للجملة، والعلاقات القواعدية بينها.
ث- علاقة الألفاظ اللغوية بالحقائق الخارجية التي تشير إليها، وهو ما يدرس في علم الدلالة الإشاري (See Trauth and Kazzazi, 1996:423).
ومن المباحث التقليدية السائدة في الغرب ما يعرف بعلم الدلالة التاريخي الذي يدرس الكلمات المفردة وتاريخها وتطور معانيها عبر العصور تحث مبحثين يطلق عليهما التأثيل etymology والتغير الدلالي semantic change.
وقد تعددت اهتمامات الباحثين في علم الدلالة من تخصصات مختلفة إلى الحد الذي أصبح فيه الحديث عن علوم الدلالة ممكنا. وهكذا نجد اللساني جون لاينز مثلا يميز بين علم الدلالة اللغوي، وعلم الدلالة الفلسفي، وعلم الدلالة الإناسي anthropological semantics وعلم الدلالة النفسي، علم الدلالة الأدبي وهلمّ جرّا Lyons, 1995:xii)). غير أنه عندما يطلق علم الدلالة دون قيد أو وصف، فإنه ينصرف إلى علم الدلالة اللغوي.
2- علم التخاطب
يعرف علم التخاطب pragmatics: بأنه "دراسة كيف يكون للقولات معان في المقامات التخاطبية"Leech, 1983:x)).
لقد تطور هذا العلم كثيرا بفضل الجهود التي قام بها لغويون وفلاسفة لغة أمريكيون مثل أوستين Austin وسيرل Searle وقرايس Grice. وقد كان اللسانيون حتى عهد قريب يبعدون المعنى عن موضوع دراساتهم بسبب طبيعته المعقدة التي تتداخل فيها مجالات بحثية مختلفة كالفلسفة والمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها. وحتى أولئك الذين دعوا إلى دراسة المعنى بحجة عدم إمكان الفصل بين النحو والمعنى كاللساني لاكوف Lakoff لم يدخلوا المشاركين والعناصر التخاطبية الخارجة عن البنية اللغوية كالمخاطب والمخاطَب والسياق الخارجي في نطاق اهتماماتهم.
وقد سبق لموريس في تمييزه الثلاثي المشهور بين حقول علم العلامات (النحو والدلالة والتخاطب) أن ذكر أنّ علم النحو يدرس العلاقات بين العلامات اللغوية وعلم الدلالة يدرس علاقاتها بالأشياء، والتخاطب يدرس علاقة العلامات بمفسريها (Lyons, 1977:1:115). ويعود هذا التصنيف الثلاثي إلى بيرس Peirce، وإن كان موريس هو أول من رسمه بوضوح، وأيده كارناب Carnap (Lyons, 1977:1:114).
ومن التفريقات المقترحة بين علم الدلالة وعلم التخاطب أن الأول يدرس المعنى والثاني يدرس الاستعمال Levinson, 1983:5))، وهو تفريق شبيه بتفريق علماء أصول الفقه المسلمين بين علم الوضع والاستعمال فكل من الوضع والدلالة يدرس المعنى بمعزل عن السياق، وكل من الاستعمال والتخاطب يدرس اللغة في سياقاتها الفعلية. غير أن الفرق بين دراسات الغربيين وعلماء التراث هو أن الدلالة والتخاطب أصبحا علمين متميزين في اللسانيات الحديثة، في حين أن الوضع فقط هو الذي استقل علما من العلوم اللغوية في التراث العربي والإسلامي، أما الاستعمال فلم يأخذ طابع العلم المستقل حتى الآن (Ali, 2000:9)، وإن كانت هناك محاولة لصوغ أصوله ونظرياته ومناهجه في كتاب "علم التخاطب الإسلامي": Medieval Islamic Pragmatics
ويتصل الفرق بين علم الدلالة وعلم التخاطب بالفرق بين الجملة والقولة، وهو فرق ناشئ عن التمييز بين اللغة والكلام، فبينما تنتمي الجملة (التي هي كيانات لغوية مجردة) إلى اللغة، تنتمي القولات (التي هي تجليات فعلية وتحققات وتجسدات عملية للجمل) إلى الكلام. ولعل من نافلة القول هنا أن نشير إلى أن معاني الجمل هي موضوع علم الدلالة في حين أن معاني القولات هي موضوع علم التخاطب.
ثم إن الفرق بين المعاني اللغوية ومقاصد المتكلمين (أو مراداتهم) وثيق الصلة بالفرق بين علم الدلالة وعلم التخاطب. فالمعاني اللغوية (التي هي معان وضعية تفهم من مفردات اللغة وتراكيبها) تنضوي في إطار اهتمامات علم الدلالة لأن استنباطها لا يحتاج إلى عناصر خارج البنى اللغوية. أما مقاصد المتكلمين فلا يمكن التوصل إليها إلا بمعرفة السياقات التي قيل فيها الكلام، ومعرفة المخاطِب والمخاطَب وإعمال القدرات الاستنتاجية التي يمتلكها المخاطب عند التعامل مع الكلام.
وظل اللسانيون بفعل التطورات السابق ذكرها يرفضون الاقتصار على دراسة الجمل اللغوية على نحو تجريدي بمعزل عن السياقات التي تستخدم فيها، رافضين فكرة تشومسكي بشأن "المخاطب السليقي المثالي ideal native speaker/hearer".
وفي السنوات الأولى من السبعينيات قصر البحث في علم التخاطب على ما يعرف بنظرية أحداث الكلام speech act theory ثم بدأ الاهتمام يتمحور بالدرجة الأولى على الدراسات العملية empirical في تحليل المحادثة التي قام بها قرايس في سنة 1975م في ما يسميه بأصول المحادثة maxims of conversation. وبسبب الإدراك المتنامي للتفاعل المتقارب بين المعنى والاستعمال، كان هناك ميل في المدة الأخيرة إلى معاملة المبحثين السابقين في إطار علم دلالة أوسع، لاسيما في أعمال صورية formal مثل علم دلالة المقام situation semantics (Gawron and Peters 1990) والمنطق الخطابي illocutionary logic (Vanderreken 1990-1) (See Trauth and Kazzazi, 1996:374)
ونتيجة للاهتمام بالجوانب التخاطبية في التعامل مع المعنى، فقد ساد المنهج البلاغي في دراسة هذا العلم. Leech, 1983:xi)).
ولا يفوتنا أخيرا أن نذكر أن علم الدلالة هو فرع عن اللسانيات النظرية (أو علم اللغة النظري).