بحث هذه المدونة الإلكترونية

مدارس اللسانيات : 1- المدرسة التاريخية

لقد كان لاكتشاف اللغة السنسكرتية (وهي لغة الهنود الدينية القديمة) أهمية كبيرة في اللسانيات التاريخية، فقد ترتب عليه نشأة فقه اللغة المقارن comparative philology، ويعد المحامي الإنجليزي وليم جونز Sir William Jones (1746-1794) الذي قام بهذا الاكتشاف المؤسس الحقيقي لهذا الحقل المعرفي بعد أن صاغ افتراضه بأن اللغة السنسكرتية تشترك في أصلها مع اللاتينية، والإغريقية، والقوطية، والفارسية.

ثم تطورت اللسانيات التاريخية متأثرة بنظرية النشوء، والارتقاء التي طورها تشارلز داروين Charles Darwin في علم الأحياء، يؤيد هذه الحقيقة أن كتاب أوغست شلايخر August Schleicher (1821-1868) الذي سماه (الخلاصة Comempndium)، وشرح فيه شجرة الفصائل اللغوية ظهر بعد سنتين فقط من نشر داروين كتابه في إنجلترا سنة 1859. وقد أتبعه في سنة 1863 ببحث عن نظرية داروين، واللسانيات دعا فيه إلى إدراج اللسانيات في العلوم الطبيعية.[1] ولا غرو فإن الفكرة الرائجة في ذلك الوقت هي أن اللغة كائن طبيعي حي، ولذا ينبغي دراستها باتباع منهج يراعي هذه الحقيقة، فإذا صحّ أنّ بعض الحيوانات انحدرت من فصائل منقرضة، وأن ثمة قوانين تتحكم في نشوئها، وارتقائها كالصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح، فمن الممكن إذن إخضاع اللغات البشرية أيضا إلى قوانين مشابهة. غير أنه ليس هناك اتفاق بين لغويي القرن التاسع عشر على الطريقة التي تتطور بها اللغة: هل تسير في اتجاه ارتقائي مثلما هو الحال في علم الأحياء حيث تتطور السلالات الأدنى إلى سلالات أعلى، أو تسير في الاتجاه المعاكس؟

يرى راسموس راسك Rasmus Rask (1787-1832) أن قواعد اللغات القدمى أكثر دقة، وتعقيدا، وأن تطورها إلى لغات فرعية يسير نحو التبسيط، والتسهيل، ويمثل لذلك بأن اللغة الدانمركية أبسط من اللغة الأيسلندية التي هي أصل لها، وأن الإنجليزية أبسط من اللغة المتفرعة منها، وهي الأنجلوسكسونية. أما شلايخر فيرى أن تاريخ اللغات القديم يشهد بأن التطور يسير من النقص إلى الكمال، حيث تتطور اللغات من العزل إلى اللصق إلى التصريف.[2] ولكي تتضح هذه النقطة علينا أن نذكر بالتقسيم الثلاثي للغات الذي عرف في القرن التاسع عشر، وهو تصنيف اللغات إلى لغات عازلة كالصينية، والفيتنامية التي تتألف فيها الكلمة من جذر جامد غير متصرف لا يقبل لاصقة، ولا صيغة، ولغات لاصقة كالتركية التي تقبل لواحق زائدة على الجذر، ولغات متصرفة كاللاتينية، والعربية حيث تتألف الكلمة المركبة من مصرفات متمازجة يصعب فصلها فصلا أفقيا؛ بحيث يقال إن الجزء الأول مثلا يعني كذا، والثاني يعني كذا، كما في جمع التكسير في العربية (نحو أبواب، كتب، حدائق)، وبناء على رأي راسك فإن البنية في العربية أكثر تعقيدا من التركية، والصينية لكونها القدمى.

وقد اقتصرت مباحث الدراسات اللغوية في القرن التاسع عشر على الكلمات من حيث المستويان الصوتي، والدلالي، وإن كان المستوى الأول أكثر تطورا، وموضوعية على الرغم من اعتراف أصحابه بأن النتائج التي توصلوا إليها إنما هي تفسير لنزعات، وليس لقوانين صوتية دقيقة. وكانت أبرز الإنجازات في المجال الصوتي، وضع بعض القوانين للإبدال الصوتي، وأشهر هذه القوانين ما عرف بقانون غريم Grimm’s Law الذي يفسر كيف تطورت الصوامت في الفصيلة الجرمانية من أصولها في اللغات الهندية الأوروبية.[3]

ومن الأسباب التي تذكر لتفسير ظاهرة التغير الصوتي: التقريب الصوتي assimilation، والاختزال الحذفي haplology.[4] وفي إطار دراسة العلاقة بين اللغات يشير المؤرخون اللغويون إلى ظاهرتين تعرفان بالقياس analogy،[5]، والاقتراض borrowing[6].

وفي مجال المعنى كان موضوع التطور الدلالي، وقوانينه محور اهتمام اللغويين التاريخيين في القرن التاسع عشر، ونظرا إلى صعوبة وضع أصول منتظمة للتطور الدلالي، فقد فسر على نحو واسع بمصطلحات تقليدية، أو حدسية مثل تخصيص المعنى، وتعميمه، والمجاز المرسل metonymy، والاستعارة metaphor. ولم يظهر تفسير أكثر تنظيما للتغير، والتطور المعجمي الدلالي إلا في فترة متأخرة جدا على يد ستيرن Stern (1931)، وغيره. ويرى سورن Seuren أن صوغ قوانين للتغير الدلالي يمكن تطبيقها على لغة ما، أو مجموعة من اللغات على نحو مماثل للقوانين الصوتية أمر مستبعد على الإطلاق.[7] ومهما يكن من أمر فإن تلك المصطلحات لازالت تستخدم حتى الآن، ويعتمد عليها كثير من اللسانيين في توضيح ظاهرة التطور الدلالي.

ولعلنا لحظنا أنّ منهج اللسانيات التاريخية يعتمد على تتبع السببية التاريخية التي تؤول إلى تفسير الظاهرة اللغوية بناء على أسباب تاريخية، وأنّ التأثيل etymology، وهو "دراسة أصل الكلمات، وتطورها"[8] كان وسيلتها المفضلة. ولولا خوف التباس هذا المصطلح في العربية بتحقيق المخطوطات لآثرنا ترجمته بالتحقيق لأنه أدق من حيث مفهومه، فهو مشتق من الكلمة الإغريقية etumos التي تعني حق، أو حقيقي. ويشير لاينز إلى أن إحدى المدارس الإغريقية في القرن الخامس الميلادي كانت تقول أن العلاقة بين الدال، والمدلول علاقة طبيعية، وليست اصطلاحية، وأنها اتخذت المنهج التأثيلي سبيلا لإثبات أن أصل الارتباط بين الدال، والمدلول في كلمة ما كان طبيعيا، وليس اصطلاحيا. وباتباع هذا النهج فإنهم في الواقع يبحثون عن الحقيقة الخافية على الناظر العادي في العلاقة الظاهرة بين الدال، والمدلول. وبعد تحليل عميق للتغييرات التي حدثت لمبنى كلمة ما، أو لمعناها لغرض اكتشاف أصل الكلمة، ثم-بناء على ذلك- معناها الحقيقي فإنهم يصلون إلى حقيقة من حقائق الطبيعة. ولكن المشكلة التي يقع فيها أنصار المنهج التأثيلي هي ما سماه لاينز بالزيف التأثيلي etymological fallacy، وذلك حين يحتجون بأن كلمة ما تعود إلى أصل إغريقي، أو لاتيني، أو عربي، أو غيره، ولذا فإن معناها ينبغي أن يكون مطابقا لما كانت عليه في الأصل. ويبدو زيف هذه الحجة في أن الافتراض الضمني بوجود صلة حقيقية، أو مناسبة في الأصل بين المبنى، والمعنى- وهو ما تقوم عليه هذه الحجة- لا يمكن التحقق منه.[9]

وشبيه بهذا ما يفعله بعض الباحثين عندما يفسرون المعنى الاصطلاحي لمفهوم ما بمعناه اللغوي مع أن احتمال ألا يكون المعنى الاصطلاحي مرتبطا بالمعنى اللغوي أمر وارد. وقد سبق لابن تيميّة (728-1328)، وابن قيّم الجوزية (751-1350) أن اعترضا على استخدام أنصار المجاز المنهج التاريخي في التمييز بين الحقيقة، والمجاز مع صعوبة التثبت من أصل اللفظ، وعدم وجود ما يفيد تاريخيا بسبق أحدهما على الآخر.[10]

ومهما يكن من أمر فإن التأثيل منهج مستخدم عوّل عليه الكثير من اللغويين معوالا كبيرا ولاسيما في القرن التاسع عشر حين وضع على أساس أمتن مما كان عليه قبل ذلك، ومازال يستخدم حتى الآن، ويعد فرعا محترما من اللسانيات التاريخية، أو التعاقبية لما له من أسس منهجية خاصة تتوقف مصداقيتها على كمية الشواهد، ونوعها التي يؤتى بها لتأييد تلك الأسس. وعلى الرغم من ذلك، فمما أصبح واضحا للتأثيليين في القرن التاسع عشر، وسلّم به اللسانيون عامة في الوقت الحاضر أن معظم الكلمات في معجم أية لغة لا يمكن أن تعزى إلى أصولها. وما يفعله التّأثيليّون الآن هو ربط كلمات لغة ما (في مرحلة قابلة للوصف التزامني من مراحل اللغة) بكلمات اللغة نفسها في مرحلة أقدم من مراحلها، أو بكلمات لغة أخرى على أن تكون هذه الكلمات قد ثبتت صحتها، أو إعادة تركيبها. ولكن هل يمكن ربط هذه الكلمات التاريخية التي ثبت صحة نسبتها، أو إعادة تركيبها إلى مرحلة أخرى أقدم من ذلك باستخدام وسائل تأثيلية؟ يتوقف ذلك كما يقول لاينز- على الشواهد التاريخية التي وصلت إلينا؛ إذ يمكن عزو كلمة ten الإنجليزية الحديثة إما إلى ten، أو tien المستخدمتين في الإنجليزية القديمة، ويمكن أن نصل الكلمة الإنجليزية القديمة من خلال مراحل افتراضية متعاقبة بكلمة أعيد تركيبها، ونسبتها إلى الهندية الأوروبية الأصلية تأخذ صيغة dekm، وتعني أيضا ten، ولكننا لا نستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك. وعلى أية حال، فإن التأثيليين في الوقت الحاضر لا يهتمون بأصل الكلمات، وكل ما يمكن أن يقولوه بثقة تقوى، أو تضعف تبعا للشواهد هو أن كذا، وكذا إنما هو مبنى، أو معنى لكلمة افتراضية، أو معروفة أقدم منها.[11]

وكما سنوضح في المبحث القادم، فقد انتكس المنهج التاريخي بعد دعوة دو سوسور إلى الفصل بين الدراسات التزامنية، والدراسات التاريخية.



[1] جفري سامسون، مدارس اللسانيات:التسابق والتطور، ترجمة محمد زياد كبة (الرياض : جامعة الملك سعود، 1996) ص7.

[2] سامسون، 1997: 11-12.

[3] P. A. M, Seuren, Western Linguistics: An Historical Introduction (Oxford: Blackwell Publishers Ltd, 1998) p. 83-4.

[4]يقصد بالتقريب الصوتي ما ينشأ عن جعل الأصوات المتعاقبة إما متطابقة، أو أكثر تشابها في المخرج، أوفي كيفية النطق كما في الكلمتين الإيطاليتين otto، وnotte. فالأولى التي تعني ثمانية مشتقة من اللاتينية octo، والثانية التي تعني ليلة مشتقة من اللاتينية noctis. ويفسر الاختزال الحذفي بأنه فقد واحد، أو اثنين من المقاطع المتشابهة صوتيا من السلسلة، كما في England التي أصلها Engla-land أي بلد الإنجليز. (See Lyons, 1981: 207-8.

[5]يعود المصطلح الإنجليزي analogy إلى الكلمة الإغريقية analogia التي تعني الاطراد regularity. وقد كان لفكرة القياس أهمية كبيرة في الفكر الإغريقي خاصة الفلسفة، والرياضيات، والقواعد، ولقيت عناية واضحة من العلماء المسلمين في التراث العربي، والإسلامي لاسيما في الفقه، وأصول الفقه، والنحو العربي. ثم استثمرها المختصون في فقه اللغة المقارن في القرن التاسع عشر في دراستهم للغات الهندية الأوروبية. ومن الأمثلة التي يظهر فيها أثر القياس في تطور الكلمات المحكوم بالقوانين الصوتية the sound-laws ما يذكره النحاة الجدد Neogrammarians من أن الإنجليزية (وكذلك الألمانية) تميز بين الأفعال الضعيفة، والأفعال القوية في اشتقاق المتصرفات. فالأفعال الضعيفة، وهي الأكثر شيوعا في الإنجليزية يشتق فيها الماضي بإضافة اللاحقة ed على صيغة الفعل الدال على الزمن الحاضر كما في jumped المشتقة من jump في حين يشتق الماضي من الحاضر في الأفعال القوية بتغيير داخلي في الصوائت كما يحدث في sang المشتقة من singrode المشتقة من ride. وقد لوحظ أن الأفعال الضعيفة التي يخضع تصريفها إلى قواعد مطردة تتزايد عددا مع مرور الزمن على حساب الأفعال القوية، ويعزى ذلك إلى نزوع المتكلمين إلى استخدام القياس. فالكبار عندما يصادفون فعلا جديدا يفعلون ما يفعله الأطفال في اكتسابهم للغة عندما يقيسون فعلا شاذا على الأفعال المطردة، ففي الإنجليزية الوسطى يستخدمون holp، وليس helped كما هو معروف في صوغ الماضي من الفعل help، وهذا يعني أن متكلمي الإنجليزية ضموا هذا الفعل إلى قائمة الأفعال المطردة. هذا هو الغالب في تطور صيغ الكلمات، ولكننا لا نعدم أمثلة معاكسة، ففي اللهجات الأمريكية يستعملون dove، وليس dived للماضي من dive خلافا لما هو متوقع.. See Lyons, 1981: 201-3

[6]الاقتراض borrowing هو أخذ لغة ما عنصرا لغويا، أو أكثر من لغة أخرى، ومن أمثلته اقتراض الإنجليزية كثيرا من الكلمات المبدوءة بالحرفين sk (مثل sky، وskill، وskirt) من اللهجات الإسكندنافية، وهو السبب الذي يفسر عدم قلبها إلى sh كما هو المطرد مع كلمات أخرى التي تقضي القوانين الصوتية بتغيير {sk} فيها إلى {sh} إذا وقعت قبل الصوائت الأمامية كما هو الحال في نحو (shirt، وship، و(shed. See Lyons, 1981: 206.

[7] See Seuren, 1998: 83.

[8]Lyons, 1981: 55.

[9]Lyons, 1981: 55.

[10]See Yunis Ali, 2000: 110.

[11] Lyons, 1981: 55-6.

0 التعليقات:

الجديد في منتديات تخاطب