فروع اللسانيات النظرية
18/6/2009 by محمد محمد يونس علي
تشمل اللسانيات النظرية فروعا مختلفة تتناول مستويات متباينة (وقد تكون متداخلة) من التحليل اللغوي، وأهم هذه الفروع:
1- علم الأصوات phonetics: يدرس الأصوات الكلامية، وتصنيفاتها من النواحي الآتية:
أ- إحداث الصوت من حيث نطقه، والاستعدادات، والقدرات الجينية الوراثية التي تؤهل الإنسان لنطق أصوات الكلام، ويتناول هذا الجانب علم الأصوات النطقي articulatory phonetics.
ب- بنية الأصوات، وهي في طريقها إلى أذن السامع، والجوانب السمعية المتعلقة بذلك، ويتناول هذا الجانب علم الأصوات السمعي acoustic phonetics.
ت- العمليات النفسية العصبية التي لها صلة بإدراك الأصوات، ويدرس هذا المجال علم الأصوات العصبي neurological phonetics.
2- علم الصياتة phonology: يهتم هذا العلم بالأصوات الكلامية ذات الصلة بالدلالة، تلك المسماة بالصيتات phonemes، وتنوعاتها الصوتية allophones في لغة ما، وخصائصها، وأنظمتها، والقواعد الصياتية التي تحكمها. وبينما يتناول علم الأصوات الجوانب المادية للأصوات الممكنة في كل اللغات، يتناول علم الصيانة النظام الصوتي في لغة بعينها، وإن كانت المقارنة مع نظام صوتي في لغة أخرى ممكنة على أية حال.
3- علم التصريف morphology: هو المجال الذي يتناول البنية القواعدية للكلمات،[1] ونظم المصرِّفات morphemes لبناء الكلمات،[2] والقواعد التي تحكم هذه المصرّفات.
4- علم النحو (أو علم التراكيب) syntax: ويتناول بنية الجمل اللغوية، وأنماطها، والعلاقات بين الكلمات، وآثارها، والقواعد التي تحكم تلك العلاقات. ونظرا إلى كون التصريف يتناول قواعد بنية الكلمة، والنحو يتناول قواعد بنية الجملة فقد يطلق على المجال الذي يجمع بين مباحث العلمين علم القواعد grammar. ويتم أحيانا التمييز بين الجوانب والوحدات القواعدية من ناحية، والجوانب والوحدات المعجمية في اللغة من ناحية أخرى. ويدرج كثير من اللسانيين المعاصرين علمي الصياتة، والدلالة في علم القواعد، وهو أمر قد يؤدي إلى لبس.[3]
5- علم الدلالة semantics: وضع هذا المصطلح بريال Breal للمجال الذي يعنى بتحليل المعنى الحرفي للألفاظ اللغوية، ووصفها. ولا تقتصر اهتماماته على الجوانب المعجمية من المعنى فقط بل تشمل أيضا الجوانب القواعدية. وكذا فإن مباحثه لا تقتصر على معاني الكلمات فقط، بل تشمل أيضا معاني الجمل، وإن كان اللسانيون يميلون في فترة ما قبل الثمانينيات إلى الاقتصار على معالجة المعاني المعجمية للمفردات فقط دون أن يتطرقوا تطرقا كافيا للعناصر القواعدية، وبنى الجمل، وكان لتطور النحو التوليدي أثر بارز في توسيع مفهوم علم الدلالة البنيوي المعجمي ليشمل مباحث تتصل بعلم دلالة الجملة sentence semantics.
وهكذا فإن من الموضوعات التي يتناولها هذا العلم:
أ- البنية الدلالية للمفردات اللغوية.
ب- العلاقة الدلالية بين المفردات كالترادف، والتضاد.
ت- المعنى الكامل للجملة، والعلاقات القواعدية بينها.
ث- علاقة الألفاظ اللغوية بالحقائق الخارجية التي تشير إليها، وهو ما يدرس في علم الدلالة الإشاري.[4]
ومن المباحث التقليدية السائدة في الغرب ما يعرف بعلم الدلالة التاريخي الذي يدرس الكلمات المفردة، وتاريخها، وتطور معانيها عبر العصور تحث مبحثين يطلق عليهما التأثيل etymology والتغير الدلالي semantic change.
وقد تعددت اهتمامات الباحثين في علم الدلالة من تخصصات مختلفة إلى الحد الذي أصبح فيه الحديث عن علوم الدلالة ممكنا. وهكذا نجد اللغوي جون لاينز مثلا يميز بين علم الدلالة اللغوي، وعلم الدلالة الفلسفي، وعلم الدلالة الإناسي anthropological semantics، وعلم الدلالة النفسي، وعلم الدلالة الأدبي، وهلمّ جرّا.[5] غير أنه عندما يطلق علم الدلالة دون قيد، أو وصف، فإنه ينصرف إلى علم الدلالة اللغوي.
6- علم التخاطب pragmatics: يعرف هذا العلم بأنه "دراسة كيف يكون للقولات معان في المقامات التخاطبية".[6]
لقد تطور هذا العلم كثيرا بفضل الجهود التي قام بها لسانيون، وفلاسفة لغة أمريكيون مثل أوستين Austin وسيرل Searle وقرايس Grice. وقد كان بعض اللسانيين حتى عهد قريب يبعدون المعنى عن موضوع دراساتهم بسبب طبيعته المعقدة التي تتداخل فيها مجالات بحثية مختلفة كالفلسفة، والمنطق، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وغيرها. وحتى أولئك الذين دعوا إلى دراسة المعنى بحجة عدم إمكان الفصل بين النحو، والمعنى كاللغوي لاكوف Lakoff لم يدخلوا المشاركين، والعناصر التخاطبية الخارجة عن البنية اللغوية كالمخاطب، والمخاطَب، والسياق الخارجي في نطاق اهتماماتهم.
وقد سبق لموريس في تمييزه الثلاثي المشهور بين حقول علم العلامات (النحو، والدلالة، والتخاطب) أن ذكر أنّ علم النحو يدرس العلاقات بين العلامات اللغوية، و علم الدلالة يدرس علاقاتها بالأشياء، والتخاطب يدرس علاقة العلامات بمفسريها.[7] ويعود هذا التصنيف الثلاثي إلى بيرس Peirce، وإن كان موريس هو أول من رسمه بوضوح، وأيده كارناب Carnap.[8]
ومن التفريقات المقترحة بين علم الدلالة، وعلم التخاطب أن الأول يدرس المعنى، والثاني يدرس الاستعمال.[9] وهو تفريق شبيه بتفريق علماء أصول الفقه المسلمين بين علم الوضع، والاستعمال فكل من الوضع، والدلالة يدرس المعنى بمعزل عن السياق، وكل من الاستعمال، والتخاطب يدرس اللغة في سياقاتها الفعلية. غير أن الفرق بين دراسات الغربيين، وعلماء التراث هو أن الدلالة، والتخاطب أصبحا علمين متميزين في اللسانيات الحديثة، في حين أن الوضع فقط هو الذي استقل علما من العلوم اللغوية في التراث العربي، والإسلامي، أما الاستعمال فلم يأخذ طابع العلم المستقل حتى الآن،[10] وإن كانت هناك محاولة لصوغ أصوله، ونظرياته، ومناهجه في كتاب: Medieval Islamic Pragmatics.
ويتصل الفرق بين علم الدلالة، وعلم التخاطب بالفرق بين الجملة، والقولة، وهو فرق ناشئ عن التمييز بين اللغة، والكلام، فبينما تنتمي الجملة (التي هي كيانات لغوية مجردة) إلى اللغة، تنتمي القولات (التي هي تجليات فعلية، وتحققات، وتجسدات عملية للجمل) إلى الكلام. ولعل من نافلة القول هنا أن نشير إلى أن معاني الجمل هي موضوع علم الدلالة في حين أن معاني القولات هي موضوع علم التخاطب.
ثم إن الفرق بين المعاني اللغوية، ومقاصد المتكلمين (أو مراداتهم) وثيق الصلة بالفرق بين علم الدلالة، وعلم التخاطب. فالمعاني اللغوية (التي هي معان وضعية تفهم من مفردات اللغة، وتراكيبها) تنضوي في إطار اهتمامات علم الدلالة؛ لأن استنباطها لا يحتاج إلى عناصر خارج البنى اللغوية. أما مقاصد المتكلمين فلا يمكن التوصل إليها إلا بمعرفة السياقات التي قيل فيها الكلام، ومعرفة المخاطِب، والمخاطَب، وإعمال القدرات الاستنتاجية التي يمتلكها المخاطب عند التعامل مع الكلام.
وظل اللسانيون بفعل التطورات السابق ذكرها يرفضون الاقتصار على دراسة الجمل اللغوية على نحو تجريدي بمعزل عن السياقات التي تستخدم فيها، رافضين فكرة تشومسكي بشأن "المخاطب السليقي المثالي ideal native speaker/hearer".
وفي المراحل الأولى من السبعينيات قصر البحث في علم التخاطب على ما يعرف بنظرية أفعال الكلام speech act theory، ثم بدأ الاهتمام يتمحور بالدرجة الأولى على الدراسات العملية empirical في تحليل المحادثة التي قام بها قرايس في سنة 1975م في ما يسميه بأصول المحادثة maxims of conversation. وبسبب الإدراك المتنامي للتفاعل المتقارب بين المعنى، والاستعمال، كان هناك ميل في المدة الأخيرة إلى معاملة المبحثين السابقين في إطار علم دلالة أوسع، ولاسيما في أعمال صورية formal مثل علم دلالة المقام situation semantics،[11] والمنطق الخطابي illocutionary logic.[12]
ونتيجة للاهتمام بالجوانب التخاطبية في التعامل مع المعنى، فقد ساد المنهج البلاغي في دراسة هذا العلم.[13]
[1] R.H. Robins, General Linguistics: An Introductory Survey, 2nd edn (London: Longman, 1978), p. 181.
[2] E. A. Nida, Morphology, 2nd edn (Michigan: The University of Michigan Press, 1962), p. 1.
[3]
[4] See Bussmann, 1996:423.
[5] John Lyons, Linguistic Semantics: An Introduction (Cambridge: Cambridge University Press,1995), p. xii.
[6] Geoffrey Leech, Principles of Pragmatics (New York: Longman, 1983), p. x.
[7] John Lyons, Semantics (Cambridge: Cambridge University Press, 1977),. 1: 115.
[8]
[9] S. C. Levinson, Pragmatics (Cambridge: University Press, 1983), p. 5.
[10] Mohamed M. Yunis Ali, Medieval Islamic Pragmatics: Sunni Legal Theorists Models of Textual Communication (
[11] J. M. Gawron, and Stanley Peters, Anaphora and Quantification in Situation Semantics (Stanford: CSLI, 1990).
[12] See Bussmann, 1996:374.
[13] Leech, 1983:xi.