أيام في حياتي (الحلقة الثانية)
12/6/2009 by محمد محمد يونس علي
عندما يدقّ الجرس معلنَا انتهاء الفترة الصباحيّة كنّا نشعر بانتعاشة؛ لأننا سنخرج من المدرسة ونتوجّه إلى ما نسميه بالمطعم، وهو مبنى يقع في نهاية سوق الترك قرب حمّام درغوت باشا، مؤلف من طابقين يستخدم أسفله لإعداد الطعام وتناوله، ويستخدم أعلاه لسكن الطلاب. لقد كان المطعم يقدّم وجبات صحّيّة متكاملة العناصر الغذائيّة المتنوّعة لاحتوائها على وجبة رئيسية مقرونة باللحم، علاوة على السلطات والخضروات والفاكهة، ومع ذلك لم يكن لي نفس في تناول الغذاء في أغلب الأحيان، بل كنت أصعد إلى الطابق العلوي للعب والاستمتاع بشيء من التسالي المحدودة (ككرة الشخاشير، ولعبة الملك والوزير). ولعلّ من الذكريات التي لاتنسى ما كان يفعله بعض سكّان القسم الداخلي مِن منعنا نحن طلبة القسم الخارجي من الدخول إلى عنابرهم، وقد يكون ذلك مثارًا للكثير من المعارك التي تنشب بين طلبة القسم الداخلي وطلاب القسم الخارجي، ولايخلو الأمر في كثير من الأحيان من تكتّلات قبليّة يقوم بها بعض سكّان القسم الداخلي، ولاسيّما المسلاّتيّون منهم متشجّعين في ذلك بكثرة عددهم، فينشب بسبب ذلك بعض المعارك الساخنة بينهم وبين طلبة القسم الخارجي تستخدم فيها الأحذية وبقايا الأطعمة أسلحة للدفاع والهجوم.
وكان ما يميّز سلوك الطلاب إجمالا في ذلك الوقت طيبة القلب وسلامة الفطرة ونقاء السريرة، وهو مايفسّر عودتهم إلى ما كانوا عليه بعد يوم أو بضعة أيّام من انطفاء جذوة تلك المعارك. وهكذا فإن هذه التسالي بحلوها ومُرّها كانت تمرّ بسرعة البرق، فسرعان ما يحين موعد الرجوع إلى المدرسة مرّة أخرى، فنبدأ قبل حلول الثالثة بقليل في اصطفاف تلقائي غير منظم، ونتوجّه إلى مصيرنا المحتوم شاقّين الزحام الشديد الذي لايكاد ينتهي من سوق الترك. كانت رحلة الرجوع إلى المدرسة مفعمة بمشاعر متناقضة: منها ما هو تعيس يرتبط ببغضنا الشديد لقسوة المدرسة وشدّتها، ومنها ما هو مفرح يرتبط بتجوالنا في ذلك السوق ببضاعته المتنوّعة الراقية التي تنتمي إلى أفضل الماركات العالمية الأصليّة. والغريب في الأمر أنّه على الرغم من احتواء متاجر السوق على بضائع باهظة الثمن، ولاسيما منها متاجر الذهب، فلقد كان من المعتاد أن نرى أبواب تلك المتاجر مفتوحة دون أن يكون أحد بداخلها، وهو منظر –بالنسبة إلينا- مألوف، ولاسيما في وقت الظهيرة عند توجّهنا إلى المطعم بعد خروجنا من الفترة الصباحيّة حيث ينصرف الكثير من التجّار إلى جامع أحمد باشا أو جامع الناقة لأداء صلاة الظهر، ويكتفون بوضع عصي المكانس أمام متاجرهم إشارة إلى عدم وجود البائع بداخلها، وأنّه سيعود حالا.
كانت الفترة المسائيّة أكثر مللاً بكثير من الفترة الصباحيّة، وكنّا دائما نرقب –عبر نوافذ صغيرة- الساعة التاريخيّة الكبيرة المعلقة على برج عال في بداية سوق الترك لمعرفة الوقت، وقد نكتفي أحيانا بسماع دقّاتها عند رأس كل ساعة ، فنأنس بكل دقة من دقّاتها لكونها ترمز لنا بانحسار جزء من الوقت الممل، وقرب الخروج من المدرسة، بيد أنّ هذا الانتظار الممل لا ينتهي إلا بسماع ست دقّات صاخبة من تلك الساعة التاريخيّة لتبدأ رحلة الانصراف. كنّا نتسابق ونتسارع في الخروج، وكان عليّ أن أهرول لكي ألحق بالحافلة التي ستنطلق من ميدان 9 أغسطس (ميدان السويحلي حاليًّا) عند الساعة السادسة والربع، أو سأضطر إلى انتظار الحافلة التالية، وهو أمر لا أطيقه؛ لأنني سأصل متأخرًا إلى البيت مما لايسمح لي بأخذ قسط من الراحة قبل تناولي العشاء وانصرافي إلى النوم.
كانت الأيّام تتوالى في رتابة شديدة، ولم يكن فيها ما يلفت الانتباه غير طول اليوم الدراسي الذي يمتدّ من الصباح الباكر إلى المغيب، ومع كل هذا الطول مازال الوالد يعتقد أنّ ثمّة في حياتنا وقتًا ضائعًا؛ ولذا كان يطلب منّا المذاكرة خلال رجوعنا بالسيّارة إلى البيت، فيشعل مصباح السيّارة الداخلي، ويطلب منّا القراءة بدون توقّف، بل حتّى عندما انضمّ والدي إلى دورة ليلية في تطوير طرق التعليم بمعهد ابن منظور، وكان توقيتها يبدأ بعد عودتنا مباشرة من المدرسة أصدر إلينا أوامر مشدّدة بعدم تضييع الوقت والاستمرار في المذاكرة على ضوء مصباح السيّارة إلى أن يخرج الوالد من المعهد بعد انتهاء الدروس. كان والدي يعتقد أننا ندرس، ولم نكن في الواقع إلا متظاهرين وممثلين، ولم ندر يوما أكنّا نغش أنفسنا أم نرفّه عليها، بيد أنّ ما كان متيقّنًا غير مشكوك فيه أنّ تطويل وقت الدراسة على تلميذ في المرحلة الابتدائيّة لم يكن إلا مضيعة للوقت، وأنّ نظام تحفيظ الفرآن الكريم المتّبع في تلك المدرسة -على الرغم من حسن نوايا القائمين عليها وشدة صدقهم وإخلاصهم- لم يكن إلا إخفاقا تامًّا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وقد برهنت الأيّام على صدق هذا الاستنتاج، وأظهرت لنا النتائج التي حقّقتها دورات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد التي لا تستغرق أكثر من خمس الوقت الذي كنا نقضيه في تلك المدرسة أنّ العبرة ليست بتطويل وقت الدراسة، بل بتنمية الدوافع والحوافز، وتحسين طرائق التعليم والتحفيظ، وليس أدلّ على ذلك من النتائج الباهرة التي حققها حُفّاظ القرآن في تلك المساجد على المستوى العالمي، وربما خير شاهد على ذلك أنّ أولئك الحفّاظ قد تمكّنوا من الفوز بالمركز الأوّل في أربعٍ من عشر دورات سنويّة أقيمت في مسابقة دبي العالمية لحفظ القرآن الكريم فضلا عن حصولهم على مراتب متقدمة في الدورات الأخرى، في حين أنّه لم أسمع أن تلميذًا واحدًا من تلاميذ تلك المدرسة قد حفظ القرآن الكريم حفظًا كاملاً وفقًا لقواعد التلاوة والتجويد.
وعلى أيّ حال، فإنّ حرص والدي على الوقت لم يكن مسخّرًا حصرًا في حماسته لحفظ القرآن الكريم، بل كان أيضا مهتمًّا بتوسيع آفاق تفكيرنا وتنويع مصادر ثقافتنا، وكان مما يراه مناسبًا لتحقيق ذلك أخذنا لحضور المحاضرات والندوات الثقافيّة التي كان يقيمها آنذاك المركز الثقافي المصري بجادّة عمر المختار قرب معرض طرابلس الدولي، وقد كانت تجربة غنيّة جدًّا أتاحت لنا فرصة رائعة للاستماع إلى كبار العلماء والباحثين والمثقفين في العالم العربي، كانت المحاضرات متنوّعة بين السياسيّة والفكريّة والدينيّة والأدبيّة، وكنت ألتقط منها ما يناسب سنّي وعمري العقلي والثقافي آنذاك، بل كان الأهم من ذلك تربية روح الطموح في نفسي، ورسم صورة القدوة في ذهني، وهو ما كان له أثر كبير في حياتي المستقبليّة.
كم كان عمركم عندمما كنتم تحضرون تلك الندوات ؟ وما هل تتتذكر ما هي أهم ملامح الاتجاه الفكري السائد أيامها على الأقل ما أثر في نفسك في ذلك الوقت؟ بانتظار المزيد
لاأذكر كم كان عمري في ذلك الوقت، ولكنه بالتأكيد تجاوز التاسعة، أما التيارات السائدة فلم أكن قادرا على تحديدها آنذاك، ولكني عرفت لاحقا أنها تتمحور حول خمسة تيارات أساسية هي: التيار القومي الناصري، والتيار الإخواني، والتيار التحريري، والتيار البعثي، والتيار اليساري.
دكتورنا الغالي لك مني كل الشكر والثناء والتقدير بعدد قطرات المطر على جهودك الثمينة والقيمة، فأنت أهل للشكر والتقدير والذي يساوي في حجمه حجم عطاؤك اللا محدود، فمنك تعلمنا أن للنجاح قيمة ومعنى
أختي ليلى الوشاحي المحترمة
أشكرك على ماورد في تعليقك، وأدعو لك بالتوفيق
مع فائق احترامي وتقديري
محمد يونس