بحث هذه المدونة الإلكترونية

في أثناء الأربعينيات، والخمسينيات من القرن العشرين ظهر تحد قوي لبلومفيلد من فيرث J. R. Firth، وأتباعه في جامعة لندن. كانت عناية فيرث، وأتباعه منصبة على علمي الصياتة، والدلالة، ولم يول النحو، والصرف العناية التي يستحقانها.[1] وبرزت في هذا الشأن نظرية التحليل العروضي prosodic analysis التي كانت جزءا من نظريته السياقية في اللغة The contextual theory of language . ويبدو أن هذا الاقتصار على الاهتمام بالأصوات كان تقليدا سائدا في بريطانيا منذ سويت Sweet، ودانيال جونز D Jones في بداية القرن العشرين.

يمكن تلخيص نظرية فيرث في كونها تنظر إلى المعنى على أنه وظيفة في سياق، وهو ما عد تحولا في النظر إلى المعنى بعد أن كان يوصف بأنه علاقة بين اللفظ، وما يحيل عليه في الخارج، أو في الذهن من حقائق وأحداث، تلك النظرة التي كانت سائدة في الفلسفة الغربية التقليدية بعد انحدارها من الفلسفة اليونانية. وربما كان القارئ للفكر الفلسفي، والمنطقي، والأصولي في تراث العربية قد ألف هذه النظرة العقلية للمعنى.[2] وهي النظرة نفسها التي شرحها أوجدن Ogden، وريتشاردز Richards في كتابهما معنى المعنى the meaning of meaning، وطوراها فيما عرف بالمثلث الدلالي.

ويعد ما فعله فيرث في هذا الشأن نقلة إبستمولوجية أنطولوجية كبيرة في حقل اللسانيات؛ لأنها دعمت الموقف السلوكي في ذهابه إلى صعوبة البحث الدلالي المعتمد على المنطق، والتصورات الوجودية المختلفة التي كانت سائدة في الفلسفة الإغريقية، كما فتحت الباب واسعا نحو نهج جديد في دراسة المعنى على نحو يراعي الاستخدامات الفعلية للغة.

يرى فيرث أن الوقت قد حان للتخلي عن البحث في المعنى بوصفه عمليات ذهنية كامنة، والنظر إليه على أنه "مركب من العلاقات السياقية".[3] وذهب إلى أن الوظيفة الدلالية لا تتأتى إلا بعد أن تتجسد القولة في موقف فعلي معين؛[4] أي بعد أن تخرج من خانة الوجود الوضعي الكامن إلى حيّز الوجود الاستعمالي الفعلي، وهو أمر لا يتحقق حسب رأيه- إلا في سياق الموقف. وقد اقتبس هذه النظرية؛ أعني نظرية سياق الموقف theory of context of situation من الإناسي anthropologist مالينوفسكي B. Malinowski.

وهكذا بدلا من الحديث عن العلاقة الثنائية بين اللفظ، والمعنى صار الحديث في المدرسة السياقية عن مركب من اللفظ، والمعنى في علاقته بغيره من المركبات التي يمكن أن تحل محله في نفس السياق. وبرز ما يسميه فيرث بالتوزيع السياقي contextual distribution المحكوم بمنهج الإبدال method of substitution الذي يقتضي أن الكلمة مثلا ما هي إلا مقابل إبدال معجمي lexical substitution لكلمات أخرى يمكن أن تحل محلها في ذات السياق، ويتحدد معناها بمقدار ما يحدثه هذا المعنى من تغيير.

وعلى المستوى الصياتي تجاوز فيرث النظرة النفسية للصيتة phoneme التي صاغها بودان دي كورتيني Baudouin De Courtenay (1845-1929)، وكان ينظر بمقتضاها إلى الصيتة على أنها "صورة عقلية"أو "صوت مفرد مجرد"، [5]وأصبحت الصيتة تتحدد "بدراسة الصوت في علاقته بالسياقات الأصواتية التي يظهر فيها، وفي علاقته بالأصوات الأخرى التي يمكن أن تحل محله في تلك السياقات".[6]

استفاد فيرث من تراث دو سوسور لاسيما في مجال العلاقات الاستبدالية، والائتلافية التي وظفها في منهج الإبدال حيث تدخل العناصر اللغوية في علاقات عمودية بين العنصر المذكور، وغيره مما يمكن أن يحل محله، وعلاقات أفقية بين العناصر المتجاورة.

وعلى الرغم من أهمية التغيير الذي جاء به فيرث في البحث اللساني عامة، وفي تفسير المعنى خاصة؛ فإن مشكلة فيرث هي أنه لم يعرض نظريته عرضا كاملا، وشاملا يبرز فيه الأسس الفلسفية، والمعرفية لأفكاره السياقية؛ إذ لم يتجاوز ما كتبه عن هذه النظرية ما يبلغ حجم كتاب كما يذكر روبينز.[7] ولعل هذا ما أغرى هاليدي في بداية الستينيات ليقدم شرحا، وتفسيرا مفصلين لنظرية فيرث، ويضمنها أبعادا جديدة بحيث لم تعد قاصرة على مستوى الجملة بل تجاوزتها إلى ما هو أكبر منها حتى غدا النص وليس الجملة- الوحدة الصغرى للتحليل. أخذ هاليدي مستويات التحليل اللغوي الثلاثة من فيرث بعد وفاته، وكان منهجه إجمالا امتدادا، وتكملة، وتطويرا لمنهج فيرث.[8]

وبغض النظر عن مدى النجاح الذي حققه هاليدي فإن مما لا ريب فيه أنه فتح آفاقا جديدة للبحث النصي، وأعطى أهمية كبيرة في الدراسات اللسانية (لاسيما فيما عرف بلسانيات فيرث الجديدة neoFirthian linguistics) لعنصر السياق، والأبعاد الوظيفية للغة، ومهّد السبيل للتوسع في الدراسات التخاطبية. وعلى أية حال، فسيبقى الفضل محفوظا لفيرث في إعادة اعتبار المعنى في الدراسات اللسانية، وهو أمر وإن لم يكن رائقا لمعاصريه- فقد انعكس في عدد من الدراسات الحديثة مثل تلك التي تعنى بدراسة المحادثة conversation، وأفعال الكلام speech acts والافتراضات presupposition، ومناسبة الكلام للسياق relevance.[9]

وهنا ينبغي أن نؤكد بشدة على أن الوظيفيين عموما لم يقصروا وظيفة اللغة على التعبير عن أفكار متكلميها كما كان سائدا في التقاليد الفلسفية الغربية السابقة لظهورهم، بل أصروا على تعدد وظائف اللغة سواء منها الإبلاغية informative، أو التعبيرية expressive، أو الاجتماعية social، أو الطلبية conative. وقد تجاوز اهتمام مدرسة براغ حدود الدراسات اللغوية المحضة، فخاضوا في الدراسات الأدبية والجمالية حتى إنهم اتهموا أحيانا بغياب المنهجية، وإخراجهم البحث اللساني عن طابع العلمية، وهي حقيقة أكدها سامسون في كتابه مدارس اللسانيات.[10]

وعلى وجه الإجمال يمكن القول: إن ما يميز الوظيفيين ممن سبقهم من البنيويين لاسيما دو سوسور، وأتباعه عدم الفصل بين البنى اللغوية، ووظائفها، وعدم إمكان عزل اللغة عن نسيجها الاجتماعي، وإغفال الفرق بين اللغة والكلام، والتشديد على التفاعل بين النظام (أو البنية)، والسياق، وإعطاء الوظيفة أهمية أكبر من البنية نفسها، ورفض النسبية، والقول بالعموميات التي تنطبق على كل اللغات، وعدم الالتزام بالتفريق الحازم بين الدراسات التعاقبية، والتزامنية كما رسمه دو سوسور.



[1] See Robins, 1997: 246.

[2] ينظر على سبيل المثال:

- أبو حامد الغزالي، معيار العلم في فن المنطق (بيروت: دار الأندلس، ط4، 1983) ص 46-47.

-الشريف الجرجاني، أبو الحسن علي، التعريفات (تونس: الدار التونسية للنشر، 1971) ص 116.

-حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط3، 1986) ص19.

- جلال الدين السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق محمد جاد المولى، وعلي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم (بيروت: دار الجيل، (د-ت) 1: 42.

[3]J. R. Firth., Papers in Linguistics 1934-1951 (London: Oxford University Press, 1957) p. 19.

[4] John Lyons, J., Firth’s Theory of Meaning. In Bazell, C. E. et al. (Eds), In Memory of J. R. Firth, (Longman 1970) p. 296.

[5]D. Jones, The Phoneme its Nature and Use. Cambridge: Cambridge University Press, 1976) p. 213.

[6]Firth, 1957:20-1.

[7] Robins, 1997:246.

[8] See Robins, 1997:246.

[9] See Robins, 1997:253.

[10] سامسون، 1996: 115.

0 التعليقات:

الجديد في منتديات تخاطب