بحث هذه المدونة الإلكترونية

لقد سلّم اللغويون والفلاسفة عامّة منذ أرسطو حتى الآن بالتفريق التقليدي بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي، بيد أنه في الحقبة الأخيرة هناك نزعة نامية عند البراغماتيين وفلاسفة اللغة والباحثين في الذكاء الاصطناعي نحو التشكيك إما كليا أو جزئيًا في هذا التفريق. فسبيربر Sperber وويلسون Wilson مثلا يصرحان بأنه "من الممكن أنه قد قُدّر لفكرة الاستخدام المجازي tropes بأكملها، وكذلك تصنيفها، أن تذهب بالطريقة نفسها التي سلكتها فكرة السوائل الفاعلة humors [في الطب] وهي الاعتقاد بوجود أربعة أنواع من السوائل الأساسية تحدد حالة الشخص العضوية والنفسية [...]. وبقطع النظر عن وجود التجاهل، ثمة أسس قوية لرفض فكرة المعنى المجازي".[i]

ومن النقاط الجديدة التي أضيفت حديثًا إلى البحث في المجاز هو السؤال: آلمجاز قضية معنى أم قضية استعمال؟ وبعبارة أخرى: آلمجاز موضوع لعلم الدلالة أم لعلم التخاطب؟ لقد ألحّ سيرل Searle –في احتجاجه ضد الآراء التقليدية، ولصالح نظرية مقبولة في المجاز- على ضرورة التفريق بين ما يسميه معنى قولة المتكلم، ومعنى الكلمة أو الجملة. وقد عزا سيرل الخلل المتأصّل في النظريات التقليدية للمجاز إلى إخفاقها في تفهّم هذا الفرق، ومحاولتها "موقعة المعنى المجازي في الجملة أوفي زمرة ارتباطات ما بالجملة".[ii] وكذلك اعتقد دفيدسون Davidson أن "المجاز –خلافا للحقيقة التي يمكن أن تعزى إلى الكلمات أو الجمل بمعزل عن سياقات استعمال معينة-"[iii] "لا يرتبط بالكلمات بل باستعمالها".[iv]

وكما سيتضح لنا، فإن هذه المقاربات الحديثة –على الرغم من إسهاماتها الثورية- مازالت أقرب إلى التقليد الشائع في التراث الإسلامي منها إلى مقاربة ابن تيمية الجذرية؛ وذلك لأن افتراضاتهم الأساسية كالافتراض بأن المجاز مرتبط بالاستعمال، وليس مرتبطا بالمعنى اللغوي من مشمولات المعتقدات التي تقول بها النظرية التقليدية للمجاز في التراث الإسلامي. وما يميز نظرية ابن تيمية الجذرية هو تشديده على تحييد التفريق بين الحقيقة والمجاز ضمن أصول نظرية قائمة على السياق contextual framework.

وفي المباحث الثلاثة القادمة سنناقش ثلاثة قضايا هي:

1- رأي أنصار ثنائية الحقيقة والمجاز، وحججهم لتأييد هذا الفرق.

2- حجج السلفية ضد هذا التفريق

3- رأي ابن تيمية في المجاز.

1.8.4. رأي أنصار ثنائية الحقيقة والمجاز

النقطة الأولى التي ينبغي أن نستهل بها الحديث هنا هي أن الفرق بين الحقيقة والمجاز يشرح عادة اعتماداّ على فكرة الوضع.[v] وقد عرّف أبو الحسين البصري المعتزلي الحقيقة بأنها "ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به".[vi] ووفقا لرأي أنصار ثنائية الحقيقة والمجاز (الذي هو رأي الجمهور في كتب أصول الفقه): إذا استعمل لفظ للتعبير عن أكثر من معنى، فإن هذا اللفظ قد يكون مشتركا، أو منقولا، أو مستعارًا. فالفرق بين المشترك –من ناحية-، والمنقول والمستعار –من ناحية أخرى-، قد يشرح من حيث العلاقة المعنوية.[vii] فإذا كان هناك علاقة بين المعاني المختلفة للفظ متعدد المعاني، وُصف اللفظ بأنه إما منقول أو مستعار. فإذا لم يكن ثمة علاقة صنف اللفظ بأنه مشترك. ويحدد الفرق –بحسب رأي الأصوليين- بالنظر في الطريقة التي يظن بأن اللفظ وضع فيها لمعناه في الوضع الأول: فإذا تقرّر أن اللفظ وضع لمعنيين بمقتضى وضعين مختلفين- سواء أوضعه واضع واحد أم أكثر- صنف اللفظ بأنه مشترك،[viii] أمّا إذا تقرّر أن اللفظ وضع وضعا أوليًّا لمعنى واحد فقط، وظن أن المعنى الآخر نشأ عن عُرف أو نتج عن استعمال متجدّد حكم على اللفظ بأنه إما منقول أو مستعار على الترتيب. ويمكن أن يشرح الفرق بطريقة أخرى، فيقال: إن المشترك –خلافا للمنقول والمستعار- يدل –كما يذكر السيوطي- على معنييه على السواء.[ix] أو كما يقول الغزالي: ليس لمعنى من معنيي المشترك بأولى أن يكون أصلا من نظيره.[x] وكما سبق أن شرحنا في الفصل السابق، فإن معاملة نوع من المعنى على أنه أصل يعني منحه عددا من المزايا، من أهمها الاعتقاد بأنه أول ما يتبادر إلى ذهن السامع في عملية التخاطب. ويُزعم بأن هذا هو المعيار الأساسي الذي يحكم به على لفظ متعدد المعنى بأنه مشترك أو غيره. ومن هنا، فإن ما ينبغي مراعاته هو أن المفترض في كتب الأصول أن معاني المشترك تتبادر إلى الذهن معًا، في غياب القرينة، في حين أن المعنى الحقيقي فقط للمنقول والمستعار هو الذي يتبادر إلى الذهن إذا لم يكن هناك قرينة على خلاف ذلك.

أما فيما يتعلّق بالفرق بين المنقول والمستعار، فيمكن أن نوجزه بالقول: إنه على الرغم من أن الصنفين مندرجان تحت فكرة المجاز، وقد يدرسان تحت صنف واحد، حاول بعض الأصوليين أن يفرّق بينهما. ولتوضيح الفرق بينهما يلجأ الغزالي إلى اختبار خاص يمكن أن نسميه "اختبار الثبات". فقد أطلق الغزالي مصطلح المنقول على اللفظ الذي "ينقل عن موضوعه إلى معنى" ويعامل باستمرار على أنه اسم ثابت له، ويستعمل للتعبير عن معنييه الأصلي والجديد.[xi] ومن ذلك لفظ الصلاة الذي وضع أصلا للدعاء في معناه العام، ثم استخدم على سبيل التخصيص للإشارة إلى الصلاة الإسلامية المخصوصة. ومنه أيضا كلمة حج الموضوعة أصلا للقصد، وكلمة كفر الموضوعة أصلا للتغطية، ثم أُعطيتا في القرآن الكريم، والسنة المطهرة معنيين جديدين هما الحج إلى مكة وعدم الإيمان على الترتيب. وقد فسرت العملية التي يعزى فيها معنى جديد للفظ قديم بالطريقة المذكورة على أنها نقل لفظ من معناه الأصلي إلى معنى جديد. وقد يفيد المعنى اللغوي للنقل والاستعارة لتوضيح الفرق بين مصطلحي المنقول والمستعار.[xii] فكما أن الإعارة تستلزم إعادة ما استعير عادة، كذلك المستعار يقتضي أن المعنى غير الحرفي الذي يدل عليه اللفظ المجازي يستخدم استخداما سياقيا فقط ولا يدل عليه اللفظ وضعًا.

ومن المهم أن نذكر هنا أنه بينما يفترض أن الاشتراك ظاهرة وضعية، ويعامل على أنه حقيقة،[xiii] ينظر إلى المستعار -على نطاق واسع- على أنه محكوم جزئيًّا بالاستعمال. والقصد من وضع القيد " جزئيًّا" الإشارة إلى أن المستعار يعتمد أيضا على ضرب من الوضع، ألا وهو الوضع النوعي (2، 2، 1)، الذي يعطي للمتكلم قدرًا كبيرًا من الحرية لاستعمال قولات جديدة (لم تستعمل من قبل)، مخالفا بذلك الوضع الشخصي. أما النقل فهو ناشئ إما عن الوضع الشرعي الذي بمقتضاه توضع المصطلحات الشرعية، أو بالوضع العرفي، ويشتمل النوع الثاني على نوعين فرعيين هما الوضع العرفي الخاص، والوضع العرفي العام. والفرق بينهما أن العرفي الخاص يقوم به أهل الاختصاص في مجال معيّن، والعرفي العام يقوم به متكلمو اللغة عامة (2، 2). وينبغي أن يلحظ أن الألفاظ الجديدة التي تدخل اللغة من طريق الوضع الشرعي، أو الوضع العرفي يمكن عدها من ألفاظ الحقيقة؛ لأن تعريف الحقيقة السابق ينطبق عليها؛ إذ يقتضي هذا التعريف أن الحكم على لفظ بأنه حقيقة أو مجاز يتوقف على اللغة موضوع التخاطب. وهكذا فإن لفظ "الصلاة" يُعد حقيقة بالنسبة إلى الوضع الشرعي، ومجاز بالنسبة للوضع الأصلي (أو اللغوي).[xiv]

1.1.8.4. حجج لتأييد التفريق بين الحقيقة والمجاز

لمّا كانت قضية وجود المجاز في اللغة مسلّمة منذ أمد بعيد، فلا حاجة لذكر كل الأدلة التي احتج بها أنصار المجاز لدعم دعواهم بأن هناك نوعًا مميزًا من الكلام يسمى مجازًا. وبدلاً من ذلك قد يكون من الحكمة أن نختار من هذه الحجج ما يبدو أقوى من غيره. ويمكن اختصار هذه الحجج في الآتي:

1- يتوقف فهم المجاز –خلافًا للحقيقة- على القرينة، ومن ثَمّ، قد تدل كلمة "أسد" على الحيوان المفترس دون حاجة إلى قرينة، ولكنها تحتاج إلى قرينة للإشارة إلى الرجل الشجاع.[xv]

2- أن بعض معاني اللفظ المتعدد المعنى تتبادر إلى ذهن المتكلم، وهذا يعني أنها المسميات الحقيقية للفظ؛ ولذا فمن المعقول أن نعدّ هذه المعاني معاني حقيقية، وغيرها معاني مجازية.[xvi] ويمكن أن نؤلف بين هاتين الحجتين، ونعيد صوغهما فيما يأتي:

3- إذا سئل متكلم فصيح عن معنى لفظ ما مثل "أسد" مجردّة من السياق، فإن إجابته لن تكون مرضية ما لم يذكر ما يعرف بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهو في هذا المثال: "الحيوان المفترس"، أو "ملك الغابة" أو نحو ذلك. وفي هذا دلالة واضحة على أن بعض معاني هذا اللفظ، ونحوه أولى من غيرها بأن توصف بأنها معان حقيقية.

2.8.4. حجج ضد التفريق بين الحقيقة والمجاز

قبل أن نشرع في مناقشة حجج ابن تيمية على عدم صحة التفريق بين الحقيقة والمجاز، من الضروري أن نشير إلى أننا سنقتصر على ذكر الحجج العامة التي لا تخصّ التاريخ الإسلامي، والثقافة الإسلامية. ومن المهم أيضا –لكي لا نظلم ابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم- أن نؤكد أنّ رأيهما في موضوع المجاز سينظر إليه على أنه عنصر واحد من نظرية براغماتية معقّدة.

وفي سياق تحديّهما لمؤيدي الفرق بين الحقيقة والمجاز أن يقدّموا أي تمييز يمكن الاعتماد عليه بين الحقيقة والمجاز، يذكر ابن تيميّة وابن القيّم عددا من الحجج ضد هذا التفريق نذكر منها ما يأتي:

1- إن التفريق بين الحقيقة والمجاز مبني على دعوى زائفة تفترض وجود وضع سابق على الاستعمال، وقد ذهب ابن تيمية وابن القيم إلى أن هذا التفريق بين الحقيقة والمجاز لا يُقبل إلا إذا ثبت أنّ مجموعة من الناس

أ‌) اجتمعوا واتفقوا على إسناد أسماء إلى ما هو موجود في العالم الخارجي،

ب‌) ثم استخدموا تلك الألفاظ لتلك المعاني،

ت‌) وبعد اجتماع آخر وافقوا على استخدام الألفاظ نفسها لمعان مختلفة بمقتضى العلاقة بين المعاني الأصلية والمعاني الطارئة، وسموا الألفاظ التي تدل على المعاني الأصلية حقائق، والألفاظ التي تدل على المعاني الطارئة مجازات.[xvii]

إن جوهر هذه الحجة هو أن وجهة النظر التأثيلية etymological والتعاقبية diachronic للمجاز غير صالحة؛ لأنها تقوم على مزاعم لا يمكن الاستدلال عليها. وبعبارة أخرى، إن الادعاء بأن أحد معاني اللفظ المتعدد المعنى حقيقي اعتمادًا على أنه أوّل معنى يوضع للفظ ادّعاء لا يمكن إثباته، بيد أنه ينبغي أن نلحظ أن ابن تيمية لا ينكر وجود علاقة بين المعاني الحقيقية والمجازية، كما أنه لا ينكر احتمال أن يكون أحد المعنيين أسبق زمنا من الآخر، ولكن ما ينازع فيه هو إمكان العثور على اختبارات موثوق بها يمكن للمرء أن يحكم بمقتضاها أن معنىً ما حقيقة أو مجاز. ومن ثمّ، لا يمكن الزعم –وفقا لابن تيمية- أنّ "الذوق" في أحد العبارات الآتية أولى من غيره بأن يوصف بأنه حقيقة: ذوق العذاب، ذوق الموت، ذوق الطعام والشراب. وسيتضح لنا أنّ ابن تيمية طوّر تفسيرًا تزامنيا synchronic بديلاً للمجاز سنناقشه فيما بعد (4. 8. 3).

2- وفي جواب ابن تيمية على الادعاء بأن اللفظ حقيقة إن دلّ بلا قرينة، ومجاز إن لم يدل بلا قرينة،[xviii] احتج بعدم وجود لفظ مفيد يدل مجردا من كل القرائن.

كما أنه يرفض الادعاء بأن اللفظ حقيقة إذا دلّ بقرينة لفظية (التي هي وضعية -خلافا للقرينة الحالية- )، ومجاز إن احتاج إلى قرينة حالية.[xix] وقد ذكر –في دفاعه عن هذا الرأي- أنّ

"اللفظ لا يستعمل قط إلا مقيدا بقيود لفظية موضوعة، والحال )حال المتكلم والمستمع( لابد من اعتباره في جميع الكلام، فإنه إذا عُرف المتكلم فهم من معنى كلامه ما لا يفهم إذا لم يُعرف؛ لأنه بذلك يعرف عادته في خطابه، واللفظ إنما يدل إذا عرف لغة المتكلم التى بها يتكلم، وهى عادته، وعرفه، التى يعتادها في خطابه، ودلالة اللفظ على المعنى دلالة قصدية إرادية اختيارية."[xx]

والظاهر أن قول ابن تيمية: إن "اللفظ لا يستعمل دون قيود لفظية وضعية" لا يبدو منسجما مع فكرة "المعنى المطلق" عند ابن القيّم، التي ستُفصل فيما بعد (4. 8. 3). ولكن ثمة –في واقع الأمر- طريقة للتوفيق بين الرأيين؛ لأن ما يعنيه ابن تيمية بالقيود عام جدا حتى إنه لا يقتصر على ما يقوله المتكلم، بل يشمل أيضا سكوته المناسب في أثناء كلامه.

3- وفي محاولته تفنيد ثاني حجج مناصري المجاز، يحتج ابن تيمية بأنه على الرغم من أن أحد معنيي (أو معاني) اللفظ متعدد المعنى يتبادر إلى الذهن قبل المعنى الآخر، فإن ذلك لا يسوّغ التفريق بين الحقيقة والمجاز، لأنّ معاني بعض ألفاظ الحقيقة قد تسبق غيرها إلى الذهن، وعلى سبيل المثال، فإن أهل اللغة يُجمعون على أن كلمة "ظهر" حقيقة في دلالتها على ظهر أي حيوان، "ومع هذا فكثير من الناس قد لا يسبق إلى ذهنهم إلا ظهر الإنسان"؛ إذ لا يخطر ببالهم ظهر الكلب، والثعلب، والذئب، والحوت، والنمل، والقمل. وكذلك إذا أقسم إنسان بألا يأكل الرؤوس أو البيض، فسيحمل كلامه عند الفقهاء على ما يؤكل عادة من الرؤوس أو البيض، وليس على رؤوس النمل، أو بيض السمك.[xxi]

وهكذا فإن "التبادر" في أصول ابن تيمية ليس عملية ثابتة محددة سلفًا، أو قابلة للتنبؤ، بل هي محكومة بالسياق بحيث إن ما يتبادر إلى الذهن في مقامٍ ما ربما لا يكون كذلك في مقامات أخرى: أي أنه ليس هناك معنى متبادر لكل كلمة في اللغة، بل السياق الذي ترد فيه الكلمة هو الذي يحدد أي المعاني المرجح تبادرها إلى ذهن السامع.[xxii] وبعبارة أخرى، فإن سبق معنى معيّن إلى الذهن دون غيره لا يعود إلى تنوّع في طبيعة الكلام في حد ذاته، بل إلى عوامل خارجية، كمدى ورود الكلمات في الكلام، ومناسبة المعنى لمقتضى الحال، وزمرة العوامل النفسية المتعلقة بطريقة عمل الذاكرة؛ ولذا فإن رجحان تبادر ظهر الإنسان على ظهر النمل إلى ذهن الإنسان عندما تذكر كلمة "الظهر" راجع إلى أن ظهر الإنسان أكثر استخدامًا في الاستعمال اليومي للغة.[xxiii]

وطبقًا لابن تيمية، ليس ثمة سمة مميزة في اللفظ نفسه يمكن للمرء أن يفرق بها بين الحقيقة والمجاز مثلما يمكن التمييز بين الجملة الخبرية والاستفهامية. ومهما يكن من أمر، فإذا كان الحال هو أنه لا توجد سمة مميّزة متأصّلة في اللفظ يمكن أن تساعد على تحديد الحقيقة من المجاز، فإن السؤال المطروح هو: لِمَ لا يُعدّ "التبادر" معيارا جيّدا للتمييز بين الحقيقة والمجاز، ولاسيما إذا أخذنا في حسباننا أن المتكلمين السليقيين في البيئة اللغوية نفسها قادرون عادة على اكتشاف المعاني المتبادرة لمعظم –إن لم يك لجميع- كلمات اللغة؟ وإذا وضعنا موقف ابن تيمية من هذه المسألة في سياقٍ حديثٍ فسيؤول الأمر إلى القول بأنه مثلما لا نرى ضرورة لجعل الدولار الكندي، مثلا، معنىً حقيقيًا، والدولار الأمريكي معنىً مجازيًا لكلمة "دولار" عند استخدامها في كندا، فكذا ليس هناك ما يدعو إلى عدّ "الحيوان المفترس" معنىً حقيقيًا و"الرجل الشجاع" معنىً مجازيًا لكلمة "أسد"؛ مادام المعنى المراد من هذه الكلمات يتضح في المقام الذي تستخدم فيه.[xxiv]

وبدلاً من القول بأنه لمّا ترجّح "الحيوان المفترس" على "الرجل الشجاع" في تبادره إلى الذهن على أنه معنى الأسد، الأمر الذي يؤهل المعنى الأول لأن يُعدّ حقيقة، والثاني ليكون مجازًا، فإنّ المعارضين لفكرة "المجاز" يفضّلون القول: ما يتبادر إلى الذهن أوّلا في المقام المناسب إنما هو المعنى المراد، ومن ثم الحقيقي للكلمة.[xxv]

4- بناء على افتراض أن المواضعات اللغوية تقع في المقامات التخاطبية الفعلية، وليس بمعزل عن القرائن، على شكل علاقة أحادية بين اللفظ والمعنى، قدّم ابن القيم حجتين، هما:

أ‌) أن الدعوى بأن الوضع مستقل عن الاستعمال ومتقدم عليه يستلزم نظريًّا أنه من الممكن أن نعزو معنى آخر إلى اللفظ قبل استعماله في معناه الأول، الأمر الذي يؤدي إلى نتيجة غير مقبولة، مفادها إمكان وجود مجاز غير مسبوق بحقيقة.[xxvi]

ب‌) لمّا كانت الدلالة، التي عرّفها بأنها "فهم معنى اللفظ عند إطلاقه" لا تحدث دون استعمال سابق، ولمّا كان الاستعمال يعني الحقيقة أو المجاز في رأي من عرّف الحقيقة بأنها "استعمال اللفظ في موضعه، أو جزء مسمى الحقيقة"[xxvii] في رأي من عرّف الحقيقة بأنها "اللفظ المستعمل في موضعه"، فإن دعوى أنّ الوضع (وهو إسناد معنىً للفظ) مستقل عن الاستعمال، ومتقدم عليه يؤول إلى القول بأن اللفظ قبل استعماله لا يكون حقيقة ولا مجازًا، مع دلالته على أحدهما في آن واحد، وهذا تناقض واضح.[xxviii]

5) إن التفريق بين الحقيقة والمجاز باطل سواء أنُظر إليه من جهة الدليل أو المدلول أو الدلالة: أما من حيث الدليل [أي اللفظ] فبطلان التفريق بين الحقيقة والمجاز لا ريب فيه؛ إذ لا يمكن لعاقل أن يقول: إن اللفظ يمكن تقسيمه إلى حقيقة ومجاز بقطع النظر عن معناه، فإذا نظرنا إلى هذا التفريق من جهة المدلول فهو باطل أيضًا، لأنه لا يمكن أن يكون المدلول في حد ذاته حقيقة أو مجازًا؛ إذ ما يمكن فعلا هو إثباته أو نفيه، وكذا فإن هذا التفريق بين الحقيقة والمجاز باطل إذا ما نظر إليه من جهة الدلالة؛ لأن المقصود بالدلالة: إما "فعل الدال" (الذي هو المتكلم)، أي "دلالته للسامع بلفظه"، أو "فهم السامع ذلك المعنى من اللفظ"، وفي كلا هذين المفهومين للدلالة، فإن المعنى المراد من اللفظ هو "حقيقته" بصرف النظر عن وضوح اللفظ أو عدمه، وعن قدرة المتكلم أو عجزه عن بيان مراده، وبقطع النظر عن علم السامع بلغة المتكلم، وإلمامه بعادة خطابه.[xxix]

ومن ثمّ، فإن معظم الخلل في رأي الجمهور في المجاز عائد –في رأي ابن القيّم- إلى الخلط بين "الكلام المقدّر"، و"الكلام المستعمل".[xxx] ويعني بالأول المواضعات التي أسندت فيها الكلمات المفردة إلى معانيها، تلك المواضعات التي يفترض الجمهور أن الواضع وضعها؛ ولذا فهي المعاني الحقيقية.

إن الخطأ الكبير في تحليل مناصري المجاز هو

"أنهم يجرّدون اللفظ المفرد عن كل قيد، ثم يحكمون عليه بحكم، ثم ينقلون ذلك الحكم إليه عند تركيبه مع غيره، فيقولون: الأسد من حيث هو بقطع النظر عن كل قرينة هو الحيوان المخصوص، والبحر بقطع النظر عن كل تركيب هو الماء الكثير، وهذا غلط؛ فإن الأسد والبحر وغيرهما بالاعتبار المذكور ليس بكلام ولا جزء كلام و لا يفيد فائدة أصلا، وهو صوت ينعق به".[xxxi]

3.8.4. تفسير ابن تيمية للمجاز

يرى ابن تيمية أنه لمّا كانت اللغة تستخدم للتعبير عن محتويات العالم الخارجي، فلابد من وجود صلة بين بنية الواقع واستعمال اللغة بحيث تعكس اللغة ما هو موجود في الواقع. ونظرا إلى عدم وجود شيء مجرد في العالم الخارجي، بل كل الموجودات تُتصوّر مقيّدة بوجهٍ ما، فلا وجود إذن للألفاظ المطلقة للدلالة عليه.[xxxii]

"فلا يوجد في اللغة لفظ السواد، والبياض، والطول، والقصر، إلا مقيّدًا بالأسود، والأبيض، والطويل، والقصير، ونحو ذلك، لا مجرّدًا من كل قيد، وإنما يوجد مجردا في كلام المصنفين في اللغة؛ لأنهم فهموا من كلام أهل اللغة ما يرون به القدر المشترك"[xxxiii]

ويقصد بهذا أن يكون ردّا على مناصري التفريق بين الحقيقة والمجاز الذين ذهبوا إلى أن اللفظ المفرد مثل "الأسد" حقيقة، إذا اعتبر مجردا من القرينة، ومجاز إذا كانت هناك قرينة دالة على أن المتكلم يقصد "رجلا شجاعًا".

ولمّا كان ابن تيمية يعتقد اعتقادا راسخا أن الألفاظ المفردة (مثل "ذوق" في معناه المجرد) غير مفيدة، ومن ثمّ، غير دالة دلالة واضحة على الأشياء في العالم الخارجي، فإن هذا يقتضي أن تصوّره العملي empirical أو [الحسّي] للعلاقة بين اللغة والواقع يختلف اختلافا أساسيًا عن نظرة المناطقة الذريين، الذين يرون أن "كل لفظ بسيط من ألفاظ اللغة له معنى مفرد، ويمكن أن يوصف هذا إما مباشرة أو بضرب من الإيجاز من زاوية العلاقة بين اللفظ والشيء أو صنف الأشياء التي يدل عليها أو يسميها اللفظ في العالم الخارجي".[xxxiv] ولعله مما يجدر ذكره هنا أن ثمة أمرين على الأقل يثيران صعوبات جوهرية لهذه النظرة الذرية، وهما اختلاف بنية اللغات، وكون ترجمة كلمة بكلمة ليست إجراء جيّدا عادة للترجمة السليمة للنصوص، الأمر الذي يعطي مصداقية لرأي ابن تيمية أن الإفادة تعتمد على السياق.

إن ما تبقى من مناقشتي لتفسير ابن تيمية للمجاز سيلخص في ثلاث نقاط: الأولى تشديده على الأصول الآتية، التي لا يُعدّ لفظ بدونها جزءا فعليا من اللغة:

أوّلا: لا يكون اللفظ مفيدا إلا إذا نظم مع آخر لتأليف جملة في الأقل.[xxxv]

ثانيا: لا تدل الألفاظ إلا بالشروط الآتية:

أ‌) أن يكون المتكلم عاقلا، وأن يستعمل اللغة على نحو مفهوم متواضع عليه وفقا لعادة كلامه.

ب‌) أن يكون السامع عالما بعادة المتكلم في استعمال كلامه.

ت‌) أن يتكلم المتكلم طبقا لعادته.

ث‌) وأن يفترض السامع ذلك.[xxxvi]

وعلى أي حال قد يحتج المرء على أن ابن تيمية بأنه لم يوفق في إصراره على أن المعاني معتمدة على السياق حتى إنه لا يمكن معرفة معنى "ظهر" إذا جردت من القرائن. وسيكون جواب ابن تيمية هو أنه على الرغم من أن لفظًا مثل "ظهر" قد يستدعي صورة ذهنية لظهر الإنسان، فهو –مع ذلك- لا يشير إلى شيء معين على شكل علاقة أحادية، كما أنه لا يمكن أن يستخدم في الإسناد. علاوة على ذلك، فإنه لمّا كانت مرادات الألفاظ هي الغاية النهائية من التخاطب، ونظرًا إلى أنه من غير الممكن أن نضع لفظًا لكل معنى بمعزل عن السياق، فلا يمكن –بناء على ذلك- أن يعد اللفظ جزءا من اللغة.

أما النقطة المهمة الثانية في تفسير ابن تيمية للمجاز فهي أنه يسوّي المجاز بما يسمى في علم الأصول المشكّكات. وقد أوضح القرافي أن سبب تسمية المشككات بهذا الاسم هو أن الناظر يشك: أتصنف على أنها من المشترك، أم من المتواطئ. ويقصد بالمتواطئ "اللفظ الموضوع لمعنى كلي مستو في محالّه". وعلى سبيل المثال، فإن كلمة "رجل" يطلق بالتساوي على كل من يمتلك السمات الآتية: (+إنسان +بالغ +ذكر). وقد عُرف المشكّك بأنه "اللفظ الموضوع لمعنى كلي مختلف في محالّه".[xxxvii] فالنور مثلا يطلق على "نور الشمس"، و"نور المصباح"، على الرغم من اختلافهما. وكذلك هناك أنواع مختلفة من الوجود، كالوجود القديم والأزلي لله، ووجود مخلوقاته، والوجود الطبيعي، والغيبي، والوجود الذهني والوجود الخارجي، وهذه الأنواع المختلفة من الوجود داخل –في بعض اللغات في الأقل- تحت مصطلح واحد. وبناء على ذلك، فإنه ليس ثمة اختلاف جوهري –وفقا لابن تيمية- بين المجازات والمشككات يسمح لنا بوضعها تحت أسماء مختلفة، ومن ثمّ، معاملتها معاملة مختلفة. وفي تحليل الجمهور يفرّق بين المجازات والمشككات بالرجوع إلى الوضع: فإذا افترض أن وضع لفظ واحد لمعنيين أو أكثر تمّ بمقتضى وضع واحد، صنف اللفظ بأنه مشكّك، ومن ثم، عوملت المعاني التي يدل عليها اللفظ معاملة معنى واحد. ومن هنا عوملت الأنواع المختلفة من الوجود (التي سبق ذكرها) معاملة معنى واحد، وليس معاني مختلفة. فإذا افترض أن وضع لفظ لأكثر من معنى تمّ بأكثر من وضع في أوقات مختلفة، وأن واضع اللفظ للمعنى الجديد قد استند إلى علاقة بين المعنيين القديم والجديد، حكم على اللفظ بأنه مجاز، وهو ما أدّى إلى وجود المعنى المجازي. بيد أن هذا المعيار لا يرضي ابن تيمية:

أوّلا:ً لأنه ليس ثمة وسيلة يمكن بها تحديد أي المعنيين سابق على الآخر،

ثانيا: لأن الطريقة الوحيدة لمعرفة أن وضع اللفظ لأكثر من معنى قد تم بأكثر من وضع في حقب مختلفة هو أن نفترض أن اللفظ مجاز، وهذا يؤدي إلى الدور.

وعلى كلّ فهناك أمر يشترك فيه ابن تيمية مع الجمهور في تفسيرهم للمجاز، وهو وجود علاقة بين ما يعرف بالحقيقة والمجاز، ولكنّ هذه العلاقة –وفقا لابن تيمية- موجودة في المشكك أيضا؛ ولذا فكما أنه ليس من المعقول أن نقول: إن "الوجود" في معناه المجرد هو المعنى الحقيقي، وأن المعاني المقيدة (كالوجود القديم والأبدي لله، ووجود مخلوقاته الفانية، والوجود الطبيعي والغيبي) هي معان مجازية، فكذلك ليس من المقبول أن نقول: إن الأسد في معناه المجرد هو المعنى الحقيقي والمعنى الفعلي المقيد "الرجل الشجاع" هو المعنى المجازي لكلمة "أسد". وينبغي التنبيه هنا على أن المقصود بالمعنى المجرد يختلف اختلافا أساسيا عن المعنى المطلق، فالمعنى المجرد يشير إلى المقصود الذهني لمعنى اللفظ الناشئ عن اعتباره بمعزل عن سياقاته الفعلية، أما المعنى المطلق فيحسن بنا أن نشرحه في ضوء تمييز ابن تيمية بين الدلالة الوجودية والدلالة العدمية (يراجع 4. 7)، وكما ذكرنا سابقا، إذا سكت المتكلم عامدا عن تقييد لفظه في حديثه بطريقة متعارف عليها فإن سكوته يفسر بأنه محاولة منه لاستخدام اللفظ في معناه المطلق، أي المعنى المفهوم من اللفظ ومن سكوت المتكلم. وبناء على ذلك فإن كلمة "أسد" في "رأيت أسدا أمس" تستخدم للدلالة على معنى مطلق، في حين أنها تستخدم في "رأيت أسدا يخطب على المنبر" للإشارة إلى معنى مقيد. وخلافًا للمعنى المجرد يوصف المعنى المطلق بأنه داخل في الاستعمال اللغوي، ومن ثمّ، فهو مفيد، وهكذا يمكن القول إنه على الرغم من اعتراف السلفيين بوجود "المعنى المفرد" فقد استخدموه في مفهوم خاص ينسجم مع فكرتهم في أن الألفاظ لا تكون مفيدة إلا إذا استخدمت في مقامات تخاطبية معينة.

إن السؤال الذي ينبغي أن يثار هنا هو لِمَ ترفض السلفية أن تعد المعنى المطلق حقيقة، والمعنى المقيد مجازا. ووفقًا لابن القيم، فإن السبب يعود إلى أن هذا التفريق "غير منضبط، ولا مطرد، ولا منعكس". كما أن هذا التفريق يتضمن تمييزا غير ضروري بين أفكار متشابهة تشابها تاما؛ إذ إن مناصري المجاز لا يطلقون لفظ المجاز على كل الألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف الإطلاق والتقييد، وهو منطبق على أغلب –إن لم يكن جميع- ألفاظ اللغة.

وعلى كلّ فإن نقطة ابن القيم يمكن توضيحها كالآتي: إذا كان كل لفظ معناه المطلق يختلف عن معناه المقيّد عُدّ مجازًا، فستعد كل اللغة مجازًا، لأن هذا ينطبق على كل ألفاظ اللغة، وهو أمر واضح البطلان، إذ إن من البيّن أن معظم الألفاظ تستعمل في معانيها الحقيقية. ثم إن معظم مناصري المجاز يُقرّون بأن كل مجاز لابد له من حقيقة، ومن ثمّ، فإن الحقيقة –في رأيهم- أسبق، وأكثر شيوعا من المجاز. كما أنهم يعترفون بأن الحقيقة أصل والمجاز هو الفرع، فلو كانت كل اللغة أو معظمها مجازا لعُدّ المجاز أصلا، ولكان أولى في الحمل عليه من الحمل على الحقيقة، وهذا يؤدي إلى لبس في اللغة والتخاطب.[xxxviii]

كل ذلك يوضح أن النقطة الأساسية لابن القيم هي أن المعنى المفرد إما مطلق أو مقيد، فالمعاني المطلقة يدل عليها بالألفاظ المطلقة، والمعاني المقيدة يدل عليها بالألفاظ المقيدة، وكلا النوعين من المعاني: المطلقة والمقيدة تنتمي إلى الحقيقة (أي إلى الاستخدام السليم للغة). ولذلك فإن لفظ "الأسد" حقيقة سواء أريد به الحيوان المفترس أو الرجل الشجاع؛ لأن المعنى المراد في كلتا الحالين محكوم بالقرينة الحالية، ولأنه ليس من المهم أكانت القرينة وجودية أم عدمية. ومع أن التمييز بين القرائن الوجودية والعدمية لا يبدو أنه استخدم من لدن ابن تيمية أو ابن القيم، غير أنه ضروري في أصولهما، ولاسيما فيما يتصل بالتفريق بين الدلالة الوجودية والدلالة العدمية، والتفريق بين المعنى المطلق والمعنى المقيّد؛ إذ لا يمكننا أن نجزم أن هذين التفريقين يمكن تفسيرهما دون الرجوع إلى هذا التمييز.

فإذا قارنا بين تفسير ابن تيمية وتفسير الجمهور للمجاز، فقد يمكننا القول أن تفسير ابن تيمية يسمح بمفهوم واسع للمعنى يمكننا أن ندرج فيه ما يسميه جمهور الأصوليين حقيقة، وما يسمونه مجازا. وهكذا فبدلا من القول بأن المعنى الحقيقي لكلمة "بحر" هو القدر الكبير من الماء، وقد تستخدم للإشارة مجازا إلى واسع العلم، يرى ابن تيمية أن البحر في إطلاقه يعني "الاتساع" ويمكن أن يستخدم تبعا للقرينة المناسبة للإشارة إلى البحر، أو إلى اتساع العلم.[xxxix] ومن ثمّ، فليس هناك فرق في المقاربة السلفية بين العلاقة التي تربط بين "سواد الحبر"، و"سواد القار"، والعلاقة الرابطة بين البحر، والإنسان الواسع المعرفة: فكما أن كلمة "أسود" التي هي من المشككات تدل على السوادين: سواد الحبر وسواد القار، ويمكن أن يشار بها إلى أيٍّ منهما، فكذلك كلمة "بحر" يمكن أن تستخدم للإشارة إلى اتساع الماء، وإلى اتساع العلم.[xl]

وينطبق هذا أيضا على كلمة "ذوق" التي يعاملها الجمهور على أن لها معنى حقيقي واحد هو وجود طعم الطعام أو الشراب في الفم، أما بقية المعاني فيعدونها معاني مجازية. وهذا في رأي ابن تيمية تصور غير سليم؛ لأن معنى "الذوق" في الواقع هو "وجود طعم الشيء" كما يذكر الخليل ابن أحمد الفراهيدي (175هـ/791م) سواء أكان طعامًا أم لا. وقد اقتبس ابن تيمية عددا من النصوص لدعم دعواه، ومن ذلك قوله تعالى:[xli]

(1) {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.[xlii]

(2) {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}.[xliii]

(3) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}.[xliv]

(4) {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا}.[xlv]

وبناء على ذلك، فبدلا من القول بأن "الذوق" تعني "وجود طعم الطعام أو الشراب" ويمكن أن تستخدم مجازًا للإشارة إلى أنواع أخرى من الذوق، يقول ابن تيمية: إن "الذوق" يمكن أن "يستعمل في كل ما يحسّ به"، وتقدم لنا القرينة الوسيلة الحقيقية التي يمكن بها اكتشاف المعنى المراد.

وعلى الرغم من أن هذا التفسير قد يبدو غريبا فالظاهر أن بعض مصنفي المعاجم كإسماعيل بن حمّاد الجوهري يجدونه عمليًّا حتى إنهم يفضلون أن يعاملوا كلمات مثل "بحر" على أن لها نطاقًا واسعًا من الاستخدامات، وليس على أن لها معاني مختلفة؛ ولذا فإن "البحر" ينطبق على البحر المعروف لعمقه، وسعته، وعلى الفرس واسع الخطا، وعلى كل نهر كبير.[xlvi]

وأما النقطة الثالثة التي تحتاج إلى عناية خاصة في تفسير ابن تيمية للمجاز فتتصل بالعلاقة بين اللفظ المجرد مثل "جناح" وتنوعاته الفعلية التي يقسمها الجمهور إلى حقيقة كما في "جناح الطائر" ومجاز كما في "جناح الذل"، بوصفها علاقة بين العام والخاص، أو بين المطلق والمقيد على الترتيب. والفرق بين العام والمطلق هو أن الأول يشير إلى صنف من الكائنات (التي يطلق عليها بحكم المواضعة اللغوية) بصرف النظر عن تنوعاتها الفردية، في حين يستخدم الثاني للإشارة إليها بقطع النظر عن تنوعاتها الوصفية؛ ولذا قد ينظر إلى "رجل" على أنه لفظ عام لانطباقه على زيد وعمرو مع اختلافهما، وقد يعد لفظا مطلقا لانطباقه على الرجل الخيّر والشرّير بقطع النظر عن تنوع أوصافهما.[xlvii] وعلى أي حال، فإن الفرق بين المعنى العام والمعنى المطلق ليس مهما هنا؛ إذن أن المشار إليه المقصود، أو معنى اللفظ مرتبط في الحالين بالمقام الذي أطلق فيه، وبعبارة أخرى، فإن وجه الشبه بين اللفظ المجازي كالأسد في "رأيت أسدا يخطب على المنبر" من ناحية، واللفظ الخاص والمقيد من ناحية أخرى هو اشتراكهما جميعًا في كونها ألفاظا تتوقف معرفة المراد منها على السياق indexical expressions.

وفضلا عن ألفاظ الخاص والمقيّد والمجاز ثمة أنواع أخرى عوملت معاملة الألفاظ المقيدة بالسياق في أصول ابن تيمية، ومن ذلك أسماء المعارف التي تشمل

1- المضمرات، نحو أنا وأنت وهو،

2- أسماء الإشارة، نحو هذا، وذلك،

3- الأسماء الموصولة، نحو {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}.[xlviii]،

4- الأسماء المعرفة، بأل نحو الرسول،

5- الأسماء الأعلام، كإبراهيم وإسماعيل ورمضان،

6- المضاف إلى المعارف، نحو بيتي، وبيت هذا الرجل، وبيت الذي ذهب الآن، وبيت الرسول، وبيت إبراهيم.

7- المنادى المعيّن، كقوله تعالى على لسان يوسف –عليه السلام-[xlix]:

(5) {يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا}.[l]

يشير ابن تيمية إلى أن ألفاظًا نحو "رسول" و"بيت" قد يراد باستخدامهما الإحالة على المعنى العام، أو الإشارة إلى معنى أخص (بيت معيّن مثلاً)، ولتوضيح ذلك فقد مثّل بنحو

(6) {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}.[li]

(7) {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم}.[lii]

فلفظ "الرسول" في النصين السابقين واحد، ولكنه يشير إلى شخصين مختلفين، وهو الرسول موسى –عليه السلام- في (6) والرسول "محمد" –صلى الله عليه وسلّم- في (7).[liii] وكذا فإنّ "أنا" و"أنت" و"هذا" و"ذاك" قد تستخدم إلى مراجع مختلفة في مقامات مختلفة.

والنقطة الأساسية التي يريد أن يطرحها ابن تيمية هي أنه على الرغم من أن هذا النوع من الألفاظ لا يستخدم مطلقًا دون قرينة لتحديد ما تشير إليه، ومع أن دلالة هذا النوع من الألفاظ تتألف من لفظٍ وقرينة لتحديد المشار إليه، فقد عوملت معاملة ألفاظ الحقيقة، ولم يدّع أحد بأنها من قبيل المجاز.[liv]

وطبقًا لابن تيمية، فإن الضمير "أنا" لم يستخدم مطلقًا قط؛ وذلك لأن المتكلم المجرد الكلي الذي هو قاسم مشترك بين جميع المتكلمين غير موجود في العالم الخارجي؛ إذ إن كل متكلم جزئي متميّز، ولذا فإذا أردنا أن نعرف المشار إليه، ومعناه، فإننا في حاجة إلى معرفة من هو المتكلم.[lv] وكما أنه ليس هناك متكلم مجرد-في رأي السلفيين-، فكذا ليس ثمة جناح مجرد، ولا ذوق مجرد، ولا ظهر مجرد، ولا بيت مجرد، بل ما هو موجود في العالم الخارجي، وما يشير إليه المتكلمون في مخاطباتهم إنما هو الجناح المقيّد، والذوق المقيّد، والظهر المقيّد، والبيت المقيّد. تأمل الأمثلة الآتية:

(8) {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}.[lvi]

(9) " {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.[lvii]

(10) {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}.[lviii]

فكلمة "جناح" في كل هذه الأمثلة مستخدمة استخدامًا مقيّدًا للإشارة إلى موجود معيّن في العالم الخارجي، وليس من عادة المتكلمين أن يستخدموا "الجناح" أو أي لفظ آخر على نحو مطلق؛ ولذلك فليس هناك فرق بين "أنا"، و"جناح" يسوّغ تضمينهما تحت أنواع مختلفة. ثم إن العلاقة بين "جناح" في معناه المجرد، والذل في "واخفض لهما جناح الذل" مشابه للعلاقة بين "جناح" و"طائر"، فلماذا إذن –والسؤال لابن تيمية- عُدّ لفظ "الجناح" حقيقة في الحال الثانية، ومجازًا في الحال الأولى مع أن المتكلمين يستخدمون كلاّ منهما في معناه المقيّد؟ فإن قال قائل-يضيف ابن القيم-: لكن "الذل" ليس له جناح، قلنا له: صحيح أن "الذل" ليس له جناح مغطى بريش، ولكن له جناح معنوي يناسبه.[lix] وسوف لن أتعمق أكثر في مسألة سبب عدم عدّ السلفية "جناح الطائر" حقيقة، و"جناح الذل" مجازًا؛ لأنه نوقش سابقًا.

دعنا الآن نلخص هذه النقطة بالقول: إن القرينة هي العنصر الأساسي في تحديد المعنى المراد في كل قولة لغوية، ولاسيما في القولات التي تشتمل على مشكك، ومتواطئ، ومشترك. وإن كل زوج مما يسمى بالحقيقة والمجاز يمثل تنوّعين من لفظ مطلق أعم منهما. ومن ثمّ، فبدلا من القول: إن "جناح الطائر" حقيقة، و"جناح الذل" مجاز، يقول السلفيون: إن التعبيرين "جناح الطائر"، و"جناح الذل" تنوّعان مختلفان لـ"الجناح"، التي لها وجود ذهني فقط، و ليس لها وجود خارجي. وبعبارة أخرى، مثلما يمكن للفظ المشكك: "أبيض" أن يشير عند وجود القرينة المناسبة إلى بياض الثلج، وبياض اللبن، ويشير لفظ المتواطئ "رجل" إلى زيد، وعمرو، ويشير لفظ المشترك "المشتري" إلى المشتري [سلعة]، وإلى كوكب المشتري، فكذا لفظ الجناح يمكن أن يطلق بالتساوي على "جناح الطائر"، وعلى "جناح الذل" بشرط أن تحديد أي المعنيين هو المعنى المراد سيتوقف على القرينة.

ومن المفترض أن يكون لتفسير ابن تيمية للمجاز مزية واحدة في الأقل تفضله على تفسير أنصار المجاز، وهي مزيّة "كونه موضوعيًّا نسبيًا". وثمة ثلاثة أسباب في الأقل تجعل تفسير ابن تيمية للمجاز أكثر موضوعية من تفسير منافسيه:

1- لكونه لا يفترض سبقا زمنيا لمعنى على الآخر،

2- لكونه لا يدّعي أن أحد المعنيين أولى بأن يكون المعنى الأول للفظ من الآخر،

3- لكونه لا يقول بأن الحمل على معنى ما من معنيي اللفظ أو معانيه بأولى من الحمل على آخر، بل يفترض أن الحمل المعزّز بقرينة هو المعنى الوحيد الممكن والمراد.

وعلاوة على ما سبق لا يقبل ابن تيميّة بالعدول عما يسميه جمهور الأصوليين "الأصل".[lx] فالمجاز –في تصوّر ابن تيميّة- ليس بديلاّ تجميليًّا للحقيقة؛ لأنّ ما يعبّر عنه بالمجاز لا يمكن التعبير عنه بالحقيقةٍ، ويتوقف استخدام لفظ مطلق أو لفظ مقيّد على المقام التخاطبي وليس على اختيار المتكلم. كما أن العلاقة بين استخدام الألفاظ المطلقة واستخدام الألفاظ المقيّدة إنما هي علاقة تكامليّة، وليست استبداليّة. ثم إنه على الرغم من قبول ابن تيمية أن الكلام يختلف في بلاغته، ولبسه، فإنه لا يعتقد أن هذا يسوّغ تقسيم الكلام إلى مجاز وحقيقة.[lxi]



[i] Sperber and Willson, "Irony and the Use-Mention Distinction", pp. 550-564, pp. 551-552.

[ii] Searle, "Metaphor". Pp.520-524.

[iii] Davidson, "What Metaphors Mean", p.496.

[iv] السابق، ص 502.

[v] للاطلاع على مناقشة تاريخ مصطلحي الحقيقة والمجاز في التراث العربي الإسلامي، يراجع الآتي:

-Jonn Wansbrough, Quranic Studies (Oxford University Press, 1977).

-Ella Almagor, "The Early Meaning of Majaz and the Nature of 'Ubayda's Exegesis", Studia Orientalia Memoriae D.H.Baneth Dedicata (Jerusalem: Magnes, 1979), pp.307-326.

-Heinrichs, "On the Gensesis of the Haqiqa and Majaz Dichotomy", pp. 111-140.

-Gully, Grammar….

[vi] البصري، 1/11. لقد تبنى بعض من جاء بعده التعريف نفسه، ومنهم الرازي الذي تبنى التعريف دون تغيير، والقرافي، الذي غيّر "ما أفيد به" بـ "استعمال اللفظ"، واستخدم كلمة "العرف" بدلا من "الاصطلاح"، والشريف الجرجاني، الذي غيّر "ما أفيد به" بـ "الكلمة المستعملة". ينظر الرازي، 1/112؛ القرافي، شرح تنقيح، ص 42-43؛ الشريف الجرجاني، التعريفات، ص 48 (الحقيقة).

[vii] See Lyons, Semantics, 2L551-552, Lyons, Language and Linguistics…p.147.

[viii] ينظر الآمدي (1983)، 1/24-25.

[ix] السيوطي، المزهر...، 1/369؛ وينظر أيضا السمرقندي، 1/208.

[x] الغزالي، كتاب محك النظر...، ص21.

[xi] ينظر الغزالي، معيار...، ص 56.

[xii] مصطلحا polysemy (مشترك) وmetaphor (استعارة) إغريقيّان، ويتكوّن الأول من poly بمعنى متعدد وsemy بمعنى معنى، (ينظر علي، وصف اللغة....، ص 346). أما المصطلح الثاني فهو مأخوذ من الإغريقية metapherein التي تعني النقل transfer. (Weiss, The Search, p.141) ولذلك فإن لفظي polysemy وmetaphor مرادفان اصطلاحيّان، وليسا حرفيين، لمصطلحي "نقل"، و"استعارة" على الترتيب، بل إن المعنى الحرفي لـ metaphor يؤهله لأن يكون ترجمة حرفية جيدة، وليس نظيرا اصطلاحيا لكلمة "نقل".

[xiii] إصرارًا منه على أن المشترك من قبيل الحقيقة، يستخدم البصري مصطلح "الحقيقة المشتركة" في مقابل "الحقيقة المفردة". ينظر البصري، 1/16-17.

[xiv] ينظر السابق، 1/11-12.

[xv] الموصلي، 2/21.

[xvi] ينظر البصري، 1/23-24؛ الرازي، 1/148-149؛ ابن تيمية، فتاوى، 20/405-406؛ الموصلي، 2/18.

[xvii] الموصلي، 2/6.

[xviii] تراجع أولى الحجج التي قدمت لصالح التفريق بين الحقيقة والمجاز (في المبحث السابق).

[xix] ابن تيمية، الإيمان، ص 109-110.

[xx] السابق، ص 110.

[xxi] ابن تيمية، فتاوى، 20/436-437، 449.

[xxii] السابق، 20/449-450.

[xxiii] السابق، 20/436.

[xxiv] ينظر السابق، 20/437. ينبغي مراعاة أن مثال ابن تيمية قد غُيّر لتوضيح فكرته.

[xxv] ينظر الموصلي، 2/68.

[xxvi] ينظر السابق، 2/7.

[xxvii] يبدو أن المكوّن الآخر هو الوضع.

[xxviii] ينظر السابق، 2/8.

[xxix] ينظر السابق، 2/68.

[xxx] ينظر السابق، 2/41.

[xxxi] السابق، 2/42.

[xxxii] ينظر ابن تيمية، الإيمان، ص 103-104.

[xxxiii] السابق، ص 104.

[xxxiv] Lyons, Semantics, 1/140.

[xxxv] ابن تيمية، فتاوى، 20/450.

[xxxvi] السابق، 20/446، 450، 459.

[xxxvii] القرافي، شرح تنقيح، ص 30-31.

[xxxviii] الموصلي، 2/22-23.

[xxxix] ينظر اقتباس ابن تيمية للمناظرة بين معارض ومؤيد للمجاز. ابن تيمية، فتاوى، 20/490-491.

[xl] السابق.

[xli] ينظر ابن تيمية، الإيمان، ص 104-105.

[xlii] القرآن الكريم، 32/21.

[xliii] السابق، 65/9.

[xliv] السابق، 44/56.

[xlv] السابق، 78/24-25.

[xlvi] الجوهري، الصحاح، (بحر).

[xlvii] ينظر القرافي، شرح تنقيح، 38-40.

[xlviii] القرآن الكريم، 5/55، 27/3، 31/4.

[xlix] ابن تيمية، فتاوى، 20/429.

[l] القرآن الكريم، 12/4.

[li] السابق، 73/15-16.

[lii] السابق، 24/63.

[liii] ابن تيمية، فتاوى، 20/427-428.

[liv] السابق، 20/430-431.

[lv] السابق، 20/430.

[lvi] القرآن الكريم، 17/23-24.

[lvii] السابق، 15/88.

[lviii] السابق، 6/38.

[lix] الموصلي، 2/20-21، 28-29.

[lx] ينظر ابن تيمية، فتاوى، 20/462.

[lxi] ينظر السابق، 20/462-463.

0 التعليقات:

الجديد في منتديات تخاطب