النظرية السياقية عند ابن تيميّة
14/6/2009 by محمد محمد يونس علي
مقدمة
تقيّ الدين ابن تيميّة هو فقيه، ومتكلّم، ومصلح ديني (661/1262-728/1328)، وهو واحد من أكثر الشخيصات تأثيرا في التاريخ الإسلامي، كما أنه الأكثر إثارة للجدل. فقد سُجن عدة مرّات لآرائه السياسية، ومجادلاته اللاذعة للسلطات الدينيّة والسياسية المسيطرة في عصره. وقد أغضبت تشديداته على الحمل الحرفي لآيات القرآن الكريم (المتعلّقة بصفات الله) كثيرا من العلماء، كما "أثارت الرأي العام ضده". وفوق كل هذا وذاك، وضَعه موقفه المضاد للتقليد، وموقفه من قضايا فقهية أخرى شائعة في خلاف مع فقهاء آخرين من أهل السنة ومن غيرهم. وعلى الرُّغم من تصنيف ابن تيميّة على أنه عالم حنبلي المذهب لقبوله الأصول الأساسية التي يقوم عليها المذهب الحنبلي، عُرف برفضه عددا غير قليل من آراء ابن حنبل. كما عُرف أيضا بنقده الحاد لغير السلفيين كالمعتزلة والأشاعرة،[i] وكذلك نقده للفلاسفة المسلمين كالفارابي، وابن سينا بسبب ما يسميه تقليدهم الأعمى للفلسفة اليونانية.[ii]
"لقد كان ابن تيمية ناقدا لمفهوم الكليّات على وجه الخصوص، لأنها –في رأيه- لا تعدو أن تكون تصورات الذهن البشري للحقائق الخارجية، التي قد تكون مطابقة أو غير مطابقة لتلك الحقائق. فالحقائق دائما – بحسب رأيه- خاصّة وجزئية".[iii]
وقد ميّز المناطقة بين نوعين من الإدراك المعرفي: التصوّر (إدراك المفاهيم في الذهن)، والتصديق (إدراك النسبة بين مفهومين)، وذهبوا إلى الاعتقاد بوجود منهجين لبلوغ هذين الإدراكين، هما: الحدّ الذي يُختبر به التصوّر، والقياس الذي يُتوصّل به إلى التصديق. وفي كتابه "الرد على المنطقيين"، وغيره من الكتب حاول ابن تيميّة إبطال المنهجين المذكورين اللذين تأسّس عليهما المنطق الأرسطي.[iv] وقد أفلح في تقديم حجج مُقنعة في مواجهة الأصول الأساسيّة لهذين الفرعين من المعرفة مُظهرا بذلك فهما عميقا للفلسفة والمنطق اليونانيين. وأتاح له منهجه البراغماتي الكشف عن عدد من مكامن الضعف في بنية الصياغة الصورية للمنطق اليوناني. وباتباع المنهج نفسه استطاع أن يصوغ عددا من الآراء المقنعة عن اللغة والتخاطب ينسجم معظمها مع أحدث النزعات العلمية في البراغماتية الحديثة.
وخلال مناقشته الموسّعة للموضوعين المثيرين للجدل: المجاز والتأويل، قدّم ابن تيميّة حججا مبعثرة، ولكنها قويّة في إطار بناء نظرية الحمل السياقي. ويمكن النظر إلى هذه الحجج على أنها نقد قوي لما يمكن وصفة بالنظرية الذرية atomism ( التي تقول بأن المعاني بسيطة ومطلقة)،[v] والنظرية الوضعية foundationalism (أي تلك التي ترى أنّ المعاني وضعت وضعا أوليّا قبليًّا)، كما طوّرهما أنصار فكرة المجاز، وذلك في سبيل أن يبني تصوّرا مطوّرا للنظرية التأليفية compositionalism، والسياقية contextualism. ومهمتي في هذا الفصل إدماج تلك الحجج المبعثرة ضمن صيغة متماسكة كي تبدو تلك الحجج كأنها نظرية مطوّرة جدّا في الحمل. وسيتضمن صوغي لهذه النظريّة ربطها بمفاهيم ابن تيميّة الوجودية ontological، والمعرفيّة epistemological، مع عناية أقل بآرائه في علم الكلام. كما يشتمل البحث أيضا على وضع خطوط عريضة لما يمكن أن نعده نظريتين براغماتيين أخريين ذات صلة، تكوّنان مع نظريته السياقية نمطًا paradigm براغماتيّا مطّردا. وهاتان النظريتان هما نظريّته في الحدّ، ونظريته في نسبيّة الإدراك. والجامع بين جميع هذه النظريات عنايتها الشديدة بالسياق، وجعلها من المشاركين (أو الفاعلين الحقيقيين) العنصر الأساسي في صوغ الموضوع، سواء أكان حدًّا، أم حملاً، أم إدراكًا. وبذلك سيكون من الممكن البرهنة على أنّ "الاعتماد على السياق" context-dependency فكرة راسخة جدّا في تفكير ابن تيميّة، وكذلك البرهنة على أن نظرية الحمل السياقي تؤلّف واحدة فقط من ثلاثة نظرية في الأقل تنجلي فيها فكرة "الاعتماد على السياق".
وعلى الرغم من أصالة موقف ابن تيميّة البراغماتي، يبدو أنه لم يُدرس من قبل في أي دراسة جادّة، هذا إن كان هناك دراسة على الإطلاق. وفي واقع الأمر، لقد كانت دعوته إلى منهج سياقي في الحمل تُفهم دائما تقريبا من لدنّ معارضيه على أنها إما إنكار تحكّمي dogmatic لوجود المجاز في اللغة، أو أنها دعوة ساذجة موجّهة إلى مناصري التأويل (ينظر 4. 9. 1) للتخلّي عن تعلقهم بالمعنى غير الظاهر لنصوص القرآن والسنة. ولسوء الحظ فإنه حتى أتباعه –باستثناء تلميذه النجيب ابن القيّم الذي أبدى في شرحه لأفكار ابن تيميّة فهما عميقًا لتبصّراته الملحوظة- لا يبدو أنهم أعطوا –بحسب علمي- أفكاره ما تستحق من اهتمام. ومن هنا فإن هذا الفصل ما هو إلا محاولة لاستشراف شيء من فكر ابن تيمية البراغماتي، ولإعادة تقويم جانب مهم من تبصّراته المغمورة.
من مقدمة الفصل الرابع من كتاب علم التخاطب الإسلامي
[i] See Lewis, Pellat and Schacht, Encyclopaedia of Islam, 951-955;
وينظر الزركلي، الأعلام، 1/144.
[ii] See Serajul Haque, Imaam Ibn Taymiyyah, P. 164
[iii] Majid, Ibn Taimiiah, pp. 164-165.
[iv] See Serajul Haque, Imaam Ibn Taymiyyah, pp. 164-165.
[v] يرى ابن تيميّة أن ما يسمى "بسائط" (atoms) التي يدّعى انها جزيئات مكونة للأنواع ليس لها حقيقة (ابن تيمية، الإيمان، ص 102). فهي لا تعدو أن تكون أشياء افتراضية مجردة. وهو ما يدعو إلى التشكيك في صلاحية التفريق بين ما يعرف في المنطق التقليدي بالتصور، الذي يشرحه بأنه "تصور الشيء البسيط المجرد من التقييد" (السابق، ص 101-102)، والتصديق الذي يمكن أن يشرحا شرحا تقريبيّا بأنه إدراك نسبة، وقد احتج بأن التصوّر بهذا المفهوم غير موجود. (السابق، ص 102)