بحث هذه المدونة الإلكترونية

أيّام في حياتي (الحلقة الأولى)



الفصل الأوّل أيّام الطفولة
من الجبل إلى الجبل
لازلت أذكر جيّدًا ماذا يعني لطفل عاش حياة الرجال بكدّها وجدّها أن ينفّس عن نفسه بالذهاب إلى الجبل. كان ذلك في النصف الثاني من عقد الستينيّات من القرن الماضي. لم تكن وسيلة سفري مع الأسرة إلى هناك سوى سيّارة الفولكس واجن التي كان الوالد مولعًا بها إلى حدّ الوله، وإن كنت أعلم -بيني وبين نفسي- أنّ هذا الوله ما كان له أن يكون لو تعلّم والدي قيادة سيّارة أخرى. كنت أعلم أيضًا أنّ والدي رجل محافظ جدًّا إلى القدر الذي لا يسمح له بالخوض في تجربة قيادة سيّارة مختلفة، وهكذا فقد كان مضطرا إلى اشتراء سيّارة فولكس جديدة –وإن كانت من طراز أحدث- كلما شعر أنّ الوقت قد حان لتجديدها. ومع كل ذلك لابد لي أن اشير إلى أنّها كانت سيّارة ممتعة، وأنّها تستحق المبلغ الذي دفع فيها (وهو ستمائة وخمسمائة دينار، أي ما يعادل ألفين ومائتين وخمسين دولارا أمريكيّا وفقا لمعدلات الصرف آنذاك).
كنت في تلك الحقبة من الزمن أدرس في كلّية أحمد باشا القرآنيّة (سمّيت فيما بعد مدرسة طرابلس المركزيّة القرآنيّة)، وهي مدرسة معروفة بحرصها على الانضباط والتحصيل، ولاسيما حفظ القرآن الكريم كاملاً. وعليّ أن أعترف بأنّ وجودي في هذه المدرسة وفّر لي تجربة غنيّة لم يظفر بها الكثير من أمثالي، ولكنها –في الوقت نفسه- سرقت منّي طفولتي، وأجمل أيّام عمري. كنّا نبدأ دراستنا بالقيام فجرًا لأداء صلاة الصبح، ثمّ نتناول إفطارنا في عجالة مرغمين غالبًا، ومشتهين أحيانًا. ننطلق بعدها من موطن سكنانا في منطقة قرجي إلى سوق المشير في قلب مدينة طرابلس حيث تقع المدرسة محاطةً بمحلات بيع الحقائب التي كانت تُعرض أمام المدرسة، وكان الكثير منّا يعثرون –عمدًا أو كرهًا- في إحدى تلك الحقائب، فتُسقط وراءها حزمة من الحقائب المرتبطة بها، ولازلت أذكر كيف ينزعج أصحاب تلك المحلات من نحو هذا الحادث الصغير. لم يكن هذا الأمر يُقلقني على الإطلاق؛ إذ لم يحدث لي أن عثرت في أيّ من تلك الحقائب المعروضة، ولكن اشدّ ما يقلقني هو صعود درجات سلّم تلك المدرسة، فقد كان قلبي يُخفق أشدّ الخفقان رهبةً وخوفًا من مديرها ومدرّسيها. لم أكن في ذلك الوقت أُدرك سبب هذا الرعب الذي يسكنني، ولكن –عندما كبرت- أدركت أنّ مبعث خوفي أنني لم أكن ميّالاً إلى الحفظ، وقد كان ذلك كافيًا لتحويل حياتي إلى جحيم؛ لأنّ هذا يعني أنّني لن أتمكّن من تسميع لوحي اليومي كما ينبغي، وهو ما يؤدّي إلى معاقبتي أشدّ العقاب. كانت تلك فعلا تجربة قاسية، وإن كنت قد تغلّبت عليها بتثبيت اللوح في ذهني بالحد الأدنى الذي يسمح بتسميعه للشيخ، مع أنّي أعلم جيّدًا أنني سأنساه بمجرّد أن أعود إلى مقعدي بعد التسميع؛ وذلك لأنني لم أقرأه –في واقع الأمر- إلا مرات قليلة لا تتجاوز –عادة- عدد أصابع اليد الواحدة.
كانت سنة 1966 بداية عهدي بالدراسة، ولازلت أذكر جيّدًا اليوم الأول الذي التحقت فيه بالمدرسة، إنّه يوم كئيب عصيب لا يمكن للذاكرة أن تنساه، كنت حينها قد أكملت من السنين سبعًا؛ إذ لم يكن مسموحًا الالتحاق بتلك المدرسة لمن هو دون ذلك؛ ولذا اضطر والدي إلى اصطحابي معه إلى المدرسة الابتدائيّة التي كان يُدرّس بها آنذاك لتلقّي شيء من التعليم العام في انتظار بلوغي السابعة؛ لألتحق بعدها من المدرسة المركزيّة القرآتيّة بطرابلس. كان والدي حينذاك مواظبًا على حضور دروس كبار علماء طرابلس من أمثال الشيخ علي الغرياني، والشيخ عمر الجنزوري، والشيخ خليل المزوغي، وكان كل من هؤلاء وأمثالهم الصورة المثلى للإنسان في نظر الوالد وأغلب أبناء جيله، فكان أمله أن يكون له من الأولاد من العلم والسمعة ما لهؤلاء، ولم يكن ليساوره شكّ في أنّ تسجيل أولاده في مدرسة طرابلس المركزية القرآنيّة هو السبيل لتحقيقه آماله فيهم. وهكذا بدأ الخطوة الأول في رحلة الألف ميل.
كانت أقدامي تتعثر وأنا أسير في ممرّ المدرسة، أستمع إلى أصوات التلاميذ وهم يجهرون بتلاوة القرآن الكريم، يحفظون ألواحهم استعدادا لتسميعها على الشيخ. كان الجوّ مهيبًا بقدر ما كان الوقت عليّ عصيبًا، فهذه تجربة جديدة في حياتي، ولم يكن لديّ من الأمن النفسي والعاطفي ما يزوّدني بالاطمئنان في مثل هذه الظروف؛ إذ لم يمض على وفاة والدتي سنة كاملة، وقد كانت والدتي–رحمها الله- تنفق معظم وقتها في العناية بي تسهر ليالي الشتاء خشية أن أتعرّى، فأصاب بالبرد، ولاسيّما أنني مصاب بالحسّاسيّة التي طالما عرّضتني لأمراض البرد القاسية، كانت والدتي بحق مثالا للأم الحنون المشفقة على والدها، ذلك الولد الذي رزقت بعد أربع بنات.
عندما حاولت أن أقدّم إحدى رجلي لاقتحام الفصل، أحسست أنّها تتجمّد، وكأنّها تستجيب لارتعاد فرائصي، أصبت بالدهشة والذهول، دفعني والدي إلى الأمام، فإذا بي داخل الفصل، غير أنني سرعان ما رجعت إلى الوراء، أعاد والدي الكرّة مرات عديدة، وأنا أقاوم دفعاته، ولم يكن له من خيار في آخر المطاف إلا أن يلطمني بكفّه لطمة قويّة على وجهي جعلتني أدرك أنّ الأمر قد حُسم، وليس لي إلا أن أمتثل، فاخترت مكانا لي بجانب أحد التلاميذ في مقدّمة الفصل، حاول ذلك التلميذ أن يخفّف من الأمر، ويهوّن عليّ آلام الصدمة ووجع اللطمة، وكافأته على ذلك بإعطائه السندوتشين اللذين اشتراهما لي الوالد من مقهى العم بشير.

كان والدي يشاطر رأي إدارة المدرسة والقائمين عليها في أنّ حفظ القرآن الكريم يحتاج إلى وقت طويل؛ ولذا فإن الوقت المخصّص له في المدرسة مناسب –في رأيه- إلى حد كبير. ولشدّة تحمّسه لذلك كان حريصا على وصولنا إلى المدرسة مبكّرين، فكان يوقظنا عند الفجر لأداء صلاة الصبح حاضرا، ثمّ التوجّه إلى محطة الحافلات لانتظار الحافلة، ولشدّة شفقته علينا (أنا وأخي) كنّا نستقل الحافلة المتوجّهة إلى المحطّة الأخيرة في الاتجاه المعاكس (بمنطقة غوط الشعّال)؛ لكي نكون أوّل المسافرين من هناك، فننعم بالحصول على الكراسي، ونتفادى بذلك الوقوف الطويل المزعج، كان ذلك قبل شرائه السّيّارة بسنتين، وقد استمرّ هذا الحال إلى أن تخلّصنا منه إلى الأبد بعد شراء الفولكس واجن.
كانت الفترة الصباحيّة تبدأ عند الساعة السابعة والنصف صباحًا، وتنتهي عند الساعة الواحدة والنصف ظهرًا، وقد قُسّمت تلك الفترة إلى قسمين: قسم يبدأ بموعد الدخول وينتهي عند الحادية عشرة، وندرس فيه القرآن الكريم، وقسم يبدأ في الحادية عشرة، وينتهي في الواحدة والنصف ظهرًا، وندرس فيه الموادّ الأخرى، تلك التي يدرسها غيرنا في المدارس غير القرآنيّة، علاوة على مقررات أخرى ننفرد بها على غيرنا من أقراننا كالإبحار في قراءة كتاب التحفة السنية، والبرهان في التجويد، وغيرهما. كانت الاستراحة تفصل بين الفترتين، وهي الفرصة الرسميّة الوحيدة التي تسمح لنا بتبادل الأحاديث والاستمتاع بشيء من المزاح. كنّا نجلس في فترة الاستراحة تحت المقاعد لتناول الإفطار، ولم تكن هذه العادة (أي الجلوس تحت المقاعد) مفهومة لي آنذاك، ولكنني أصبحت الآن قادرا على تفهّم ذلك السلوك؛ إذ كان من بيننا الكثير من الفقراء الذين يأتون عادة من الأرياف، ويسكنون السكن الداخلي، ولم يكن لهم من الإمكانات المادّية ما يمكنّهم من شراء إفطار منافس لما يأكله التلاميذ الآخرون الذين ينتمون إمّا إلى أسر غنيّة من طبقة التجّار الأثرياء، أو من الطبقة المتوسّطة بمعايير ذلك الزمان، كما هو الحال معي. وهكذا فإن الغطس تحت المقاعد يوفّر لنا شيئًا من الستر يحول دون حصول الكثير من الإحراج.
لقد كان الوقت الذي نقضيه في الاستراحة من أسعد اللحظات، ولاسيما أنني أستمتع فيه بتناول سندوتش مميّز من التونة والهريسة الممزوجة بزيت الزيتون مع نكهة خاصة يضيفها ما نسميه بـ "المسيّر"، وهو فلفل أخضر حار مخلّل في الملح والماء ومركّز الليمون، ولكنّه معدّ بطريقة خاصّة تعكس خبرة العمّ بشير الذي نشتري منه تلك السندوتشات من مقهاه الصغير المحشور في زاوية القوس التاريخي في مدخل سوق المشير من جهة ميدان الشهداء (أو الساحة الخضراء كما تسمى الآن).

4 التعليقات:

    حسنا قرأت التدوينة سطرا سطرا يا أستاذي الكريم
    بانتظار الحلقات القادمة بشغف حقيقي منبعه بالتأكيد فضولي حيال حياة عالم مثل حضرتك وايضا كونكم من ليبيا البلد الذي معلوماتي عنه لا تتجاوز معلومة أن الشهيد عمر المختار من بلدكم .. فضلا عن أسلوب حضرتك السلس في السرد .. ثم إن سندويتشات العم بشير تبدو لذيذة للغاية .. هل مقهاه لازال موجودا؟

     

    لا ادري لماذا خطر في بالي -يادكتور- وأنا أقرأ هذا الجزء من حياتك سيرة أحمد امين التي دونها في كتابه "حياتي"،اذ كان والده حريصا كوالدكم الكريم على أن يتلقى التعليم الديني-الأزهري- في وقت كان الناس يتوجهون للتعليم المدني.
    قد تكون لطريقة آبائنا هذه في التربية سلبياتها ولكن هاهي انتج لنا علمين.
    تحياتي لك.

     

    أخي الأستاذ طارق المبارك المحترم
    أشكركم على تفاعلكم السريع، ويشرفني التواصل معكم
    مع فائق احترامي وتقديري
    محمد يونس

     

    أختي الأستاذة صفية الجفري المحترمة
    أشكركم على تفاعلكم السريع، ويشرفني التواصل معكم
    للأسف المقهى غاب مع جملة من الذكريات الحلوة
    مع فائق احترامي وتقديري
    محمد يونس

     
الجديد في منتديات تخاطب