أنواع المعنى عند الغربيين
12/6/2009 by محمد محمد يونس علي
- أنواع المعنى
لعل من أفضل الدراسات التي تناولت تصنيف المعنى وتفريعه، ومناقشة جزئياته، والأسس التي اعتمدت عليها التصنيف دراسات علماء الأصول في طرق الدلالة، ودراسات اللسانيين في المعنى وأنواعه، ولاسيما ما تضمنه علما الدلالة والتخاطب. وسنشرح في المباحث الآتية أنواع المعنى عند الغربيين ثم نتبعه بأنواع المعنى عند علماء الأصول.
1- أنواع المعنى عند الغربيين
لم يعد النظر إلى التخاطب اللغوي في اللسانيات الحديثة على أنه عملية مستندة إلى عناصر وضعية conventional محضة، بل أصبح من المسلم به –بعد ظهور علم التخاطب pragmatics – أن المخاطبين لا يمكنهم بلوغ تخاطب ناجح دون اللجوء إلى عناصر منطقية وتخاطبية. وبذلك تطورت النظرة إلى عملية التخاطب من اقتصارها على عمليتي الفك والتركيب للبنى الوضعية (المعجمية والقواعدية) إلى كونها عملية استنتاجية محكومة بأصول تخاطبية تتداخل فيها ثلاثة عناصر أساسية هي المواضعات اللغوية linguistic conventions والعمليات المنطقية logical processes والأصول التخاطبية principles of conversation. ويرتبط كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة بنوع معين من المعاني التي نتخاطب بها في حياتنا اليومية؛ فالمواضعات اللغوية ترتبط بالمعاني الحرفية للغة (المعاني الحقيقية مثلا) والنسب الخارجية التي تشير إليها الجمل في الخارج، والعمليات المنطقية ترتبط بما يعرف بدلالتي التضمن والافتراض، والأصول التخاطبية ترتبط بالمفاهيم التخاطبية (أو الاستنتاجات غير الوضعية المنطقية). ولا شك أن هذه التطورات المتمثلة في توسيع النظرة إلى عملية التخاطب على النحو المذكور سابقا تدعونا إلى إعادة النظر في مفهوم الكفاية اللغوية والتخاطبية بحيث أصبح من المعقول الاعتقاد بأنه لا يصدق على متكلم لغة ما بأنه قادر على استخدام اللغة إلا إذا (أ) تمكن من المواضعات اللغوية (المعجمية منها والقواعدية) و(ب) تمتع بقدرات عقلية تمكنه من أداء العمليات المنطقية التي يحتاج إليها في استنتاج المعاني المنطقية، و(ج) ألمّ بالأصول التخاطبية التي بها يستطيع استنباط المفاهيم التخاطبية. ولعّل في هذا تفسيرا لعجز الحاسوب عن أن يمتلك ناصية اللغة البشرية الطبيعية ويتقنها على النحو الذي نراه في الجنس البشري؛ إذ الحاسوب وغيره من الآلات المشابهة، وإن كانت له القدرة على التعامل مع المعاني الوضعية والمنطقية، فإنه يخفق في التعامل مع الأصول التخاطبية لصعوبة تقنينها، وطبيعتها الفلسفية والاجتماعية المعقدة.
لعل من أفضل الدراسات التي تناولت تصنيف المعنى وتفريعه، ومناقشة جزئياته، والأسس التي اعتمدت عليها التصنيف دراسات علماء الأصول في طرق الدلالة، ودراسات اللسانيين في المعنى وأنواعه، ولاسيما ما تضمنه علما الدلالة والتخاطب. وسنشرح في المباحث الآتية أنواع المعنى عند الغربيين ثم نتبعه بأنواع المعنى عند علماء الأصول.
1- أنواع المعنى عند الغربيين
لم يعد النظر إلى التخاطب اللغوي في اللسانيات الحديثة على أنه عملية مستندة إلى عناصر وضعية conventional محضة، بل أصبح من المسلم به –بعد ظهور علم التخاطب pragmatics – أن المخاطبين لا يمكنهم بلوغ تخاطب ناجح دون اللجوء إلى عناصر منطقية وتخاطبية. وبذلك تطورت النظرة إلى عملية التخاطب من اقتصارها على عمليتي الفك والتركيب للبنى الوضعية (المعجمية والقواعدية) إلى كونها عملية استنتاجية محكومة بأصول تخاطبية تتداخل فيها ثلاثة عناصر أساسية هي المواضعات اللغوية linguistic conventions والعمليات المنطقية logical processes والأصول التخاطبية principles of conversation. ويرتبط كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة بنوع معين من المعاني التي نتخاطب بها في حياتنا اليومية؛ فالمواضعات اللغوية ترتبط بالمعاني الحرفية للغة (المعاني الحقيقية مثلا) والنسب الخارجية التي تشير إليها الجمل في الخارج، والعمليات المنطقية ترتبط بما يعرف بدلالتي التضمن والافتراض، والأصول التخاطبية ترتبط بالمفاهيم التخاطبية (أو الاستنتاجات غير الوضعية المنطقية). ولا شك أن هذه التطورات المتمثلة في توسيع النظرة إلى عملية التخاطب على النحو المذكور سابقا تدعونا إلى إعادة النظر في مفهوم الكفاية اللغوية والتخاطبية بحيث أصبح من المعقول الاعتقاد بأنه لا يصدق على متكلم لغة ما بأنه قادر على استخدام اللغة إلا إذا (أ) تمكن من المواضعات اللغوية (المعجمية منها والقواعدية) و(ب) تمتع بقدرات عقلية تمكنه من أداء العمليات المنطقية التي يحتاج إليها في استنتاج المعاني المنطقية، و(ج) ألمّ بالأصول التخاطبية التي بها يستطيع استنباط المفاهيم التخاطبية. ولعّل في هذا تفسيرا لعجز الحاسوب عن أن يمتلك ناصية اللغة البشرية الطبيعية ويتقنها على النحو الذي نراه في الجنس البشري؛ إذ الحاسوب وغيره من الآلات المشابهة، وإن كانت له القدرة على التعامل مع المعاني الوضعية والمنطقية، فإنه يخفق في التعامل مع الأصول التخاطبية لصعوبة تقنينها، وطبيعتها الفلسفية والاجتماعية المعقدة.
،1 ، 1- أنواع المعنى عند قرايس
يتسم تصنيف المعنى عند بول قرايس بشيء من الغموض، فترك ذلك صداه في المحاولات التي قام بها اللسانيون لرسم مشجر لهذا التصنيف، ولعل من أبرز المحاولات في ذلك محاولتي روبرت هارنيش Robert M. Harnish[1] (انظر شكل (ا)) وجيرولد صادُك Jerrold M. Sadock[2] (انظر شكل (2)).
ويتميز مشجر صادك بأنه أقرب لتوضيح ما عرضه قرايس بالفعل عن أنواع المعنى، وإن لم يوضح موضع المعنى المنطقي في تصنيف قرايس. ومهما يكن من أمر فقد اتفق المشجران على تقسيم المعنى إلى منطوق ومفهوم، وتفريع المفهوم إلى وضعي وغير وضعي، وتفريع غير الوضعي إلى تخاطبي وغيره، وتفريع المفهوم التخاطبي إلى عام وخاص. ولئن لم يشر قرايس إلى ما أشار إليه هارنيش وصادك في مشجريهما بالمفهوم غير الوضعي غير التخاطبي فإن القسمة المنطقية تقتضي ذلك لاستقصاء كل الاحتمالات الممكنة. وربما كان الخط المستقطع الذي يشير إلى هذا النوع من المفهوم في مشجر هارنيش يقصد به الإيماء إلى كون هذا المفهوم احتماليا وليس حقيقيا. وسنتحدث في المباحث القادمة عن كل نوع من أنواع المعنى عند بول قرايس.
1 ، 1، 1- المعنى الوضعي (أو المنطوق)
يفرق بول قرايس Paul Grice بين نوعين أساسيين من المعنى: المنطوق والمفهوم، ويقصد بالمنطوق (أو المعنى الوضعي للجملة) محتواها الدلالي الذي يشمل مجموع المعاني القواعدية (الصرفية والنحوية) والمعاني المعجمية التي تتضمنها، والتي يشير مجموعها إلى النسبة الخارجية (الموجودة خارج الذهن). كما يشمل أيضا تحديد الأوقات والمراجع التي تحيل عليها التعبيرات المشيرة.[3] وقد درج اللسانيون إلى مساواة معنى الجملة الوضعي بنسبتها الخارجية أو اشتراط صحتها its truth condition كما يعرف في اللسانيات. ويمكن أن يمثل لذلك بـ (1) التي لا يمكن أن تكون صادقة إلا إذا كانت لبريطانيا ملكة وكانت من أثرى سيدات العالم. وهذا المعنى يفهم من مجموع المعاني القواعدية والمعجمية التي تتضمنها الجملة ولا يحتاج استنباطه إلى استدلالات منطقية ولا اعتماد على أصول تخاطبية.
(1) ملكة بريطانيا من أثرى سيدات العالم.
ويتسم المعنى الوضعي كما يذكر قراندي Grundy بعدم قبوله للإلغاء أو الإبطال دون الوقوع في تناقض،[4] إذ لا يمكن أن نضيف على الجملة السابقة العبارة (2) مثلا دون أن نقع في تناقض بين (1) و (2).
(2) ولكنها فقيرة.
وإذا ما أُقِرّ معيار قبول الإلغاء هذا لاكتشاف المعنى الوضعي، فسيصبح كلٌّ من التضمن والافتراض داخلين في تعريف المعنى الوضعي، ويبدو هذا ما ذهب إليه معظم الأصوليين عندما أقروا بأن دلالة التضمن من قبيل المعنى الوضعي، وإن خالف في ذلك الرازي وأتباعه.[5] وذلك لأن التضمن والافتراض أيضا لا يقبلان الإلغاء كما سنبين في موضع الحديث عنهما.
وهكذا فإن ما يقصده قرايس بالمنطوق what is said إنما هو المحتوى المنطقي للقولة اللغوية أو النسبة الخارجية the truth condition التي تشير إليها في الخارج. وكل ما يخرج عن هذه النسبة فهو داخل في المفهوم implicature. ومن الواضح أن تعريف المفهوم عنده إنما هو تعريف سلبي يشمل مجموعة غير متناغمة من المعاني لا يجمع بينها غير كونها لا تدخل في المنطوق.[6]
ويرتبط تفريق قرايس بين المنطوق والمفهوم كما يذكر هورن Horn بالتفريق التقليدي بين صيغة الجملة المرتبطة بنسبتها الخارجية ومحتواها الذي لا يرتبط بنسبتها الخارجية.[7] ومن ناحية أخرى يرتبط التفريق بين المنطوق والمفهوم كذلك بين علم الدلالة semantics وعلم التخاطب pragmatics، فبينما ينتمي الأول إلى الدلالة يندرج الآخر في إطار التخاطب.
وقد قدم قرايس بعض المعايير التي تميز المفهوم التخاطبي conversational implicature بوضوح من التضمن entailment ونحوه من المعاني المنطقية والوضعية يمكن تلخيصها في الآتي:
(أ) أن المفهوم التخاطبي يحتاج إلى ‘تأمّل’ worked out[8] تحكمه أصول التعاون ‘Cooperative Principles’.
(ب) أنه قابل للإلغاء cancelability أو للإبطال [9]defeasible وهو يعني أنه من الممكن إبطاله، كما في (3) التي ينشأ عنها المفهوم (4) حيث يمكن إبطاله أو إلغاؤه كما في (5)، خلافا للتضمن الذي لا يمكن فيه ذلك دون الوقوع في تناقض صريح كما في (6) التي تتضمن ضرورة (7)؛ ولذا لا يمكن إلغاء ما تتضمنه بقولنا (8) إلا بالوقوع في تناقض بين (6) و(7).
(3) أحمد يملك سيّارتين.
(4) أحمد يملك سيّارتين فقط لا غير.
(5) أحمد يملك سيّارتين، لا بل ثلاث.
(6) قابيل قتل هابيلا.
(7) هابيل مات.
(8) قابيل قتل هبيلا، ولكن هابيلا لم يمت.
(ت) أنه غير قابل للانفكاك non-detachability،[10] ويقصد به أن تغيير صيغة القولة لفظا مع عدم المساس بالمعنى لا يؤدي إلى إلغاء المفهوم التخاطبي؛ لارتباطه بالمعنى وليس باللفظ؛ فأي تغيير في القولة (9) إلى أي من مرادفاتها الممكنة لا يؤول إلى إلغاء مفهومها في (10).[11]
(9) في الغنم السائمة زكاة.
(10) ليس في الغنم المعلوفة زكاة.
(ث) أنه ليس جزءا من الصيغة المنطوقة، أي أنه ليس وضعيا، ولذا فإن المنطوق قد يكون صادقا والمفهوم كاذبا.[12]
(ج) أنه لا يستمد من المنطوق بل من الطريقة التي نطق بها.[13]
(ح) أنه ظني الدلالة indeterminate.[14]
ويمكن أن نضيف إلى ذلك
(خ) قابلية التأكيد reinforceability، ويقصد بها إمكان تأكيد المفهوم الذي يفهم من قولة ما دون الوقوع في الحشو. ويمكن أن يمثل لذلك بـ (11) التي يفهم منها (12) حيث أضيف إليها المؤكد ‘لا في المعلوفة’ في (13) دون أن تكون الإضافة حشوا، خلافا للتضمن الذي لا يكون تأكيده إلا حشوا كما إذا ما أكدنا (15) المفهومة بدلالة التضمن من (14) بـقولنا (16)، فيؤدي ذلك إلى حشو جلي غير مقبول.
(11) في الغنم السائمة زكاة.
(12) ليس في الغنم المعلوفة زكاة.
(13) في الغنم السائمة، لا في المعلوفة، زكاة.
(14) قتل قابيل هابيلا.
(15) مات هابيل.
(16) فمات هابيل.
3،1 ، 1، 2- المعنى المنطقي
يشمل المعنى المنطقي implication نوعين من المعاني هما التضمن والافتراض.
3،1 ، 1، 2، 1- التضمن
يصدق على قضية ما (ق) أنها تتضمن أخرى (ك) إذا كان الحال أنه كلما كانت ق صادقة كانت ك بالضرورة صادقة. فالتضمن entailment إذن علاقة بين جملتين ق و ك؛ حيث ق تتضمن ك إذا كان صدق ك تابعا ضرورة لصدق ق. تأمل –على سبيل المثال- (17) و (18) حيث ق (17) تتضمن ك (18) بحيث كلما كانت (17) صادقة كانت (18) صادقة. أما إذا كانت ق كاذبة -بأن لم ير المتكلم كلبا- فلا يشترط أن تكون ك كذلك بل قد تكون ك صادقة إذا رأى المتكلم حيوانا آخر أو كاذبة إن لم ير حيوانا على الإطلاق.
(17) رأيت كلبا.
(18) رأيت حيوانا.
3،1 ، 1، 2، 2- الافتراض
الافتراض presupposition هو علاقة بين جملتين ق و ك حيث ق (19) تفترض ك (20) إذا كانت ك صادقة سواء أكانت ق صادقة (كما في (19)) أم كاذبة (كما في (21)).
(19) -توقف سليم عن التدخين
(20) سليم دخّن
(21) لم يتوقف سليم عن التدخين
والافتراض مفهوم يختلط كثيرا بمفهوم التضمن حتى عرفه بعضهم بأنه "تضمن لا يتأثر بالنفي" [15]“an entailment that survives negation” وهذا يعني أن كلا من (19) و(21) (على الرغم من أن الثانية منهما تنفي أولاهما) تفترض أن سليما كان قد دخّن.
وعلى الرغم من أنني لم أعثر على تعليل -فيما قرأت من كتب اللسانيين- لظاهرة نجاة الافتراض من النفي وتأثر التضمن به، فالظاهر أن السبب هو أنه في الافتراض تتكوّن (22) مثلا من (23) و(24) على نحو تبدو فيه الأولى سابقة زمانيا ومنطقيا للثانية بحيث يستلزم إثبات الثانية إثبات الأولى، لأن اللاحق لا يتحقق إلا بإثبات السابق، ولكن لا يؤدي نفي الثانية كما في (25) إلى إلغاء الأولى (23)؛ لأنه قد يثبت السابق دون وقوع لاحق.
(22) علي توقف عن التدخين
(23) علي دخن.
(24) علي توقف عن التدخين.
(25) علي لم يتوقف عن التدخين.
أما في حالة التضمن فإن الأولى (27) ليست سابقة ولا تالية للثانية (28)، إذ الرتبة بينهما غير واردة، بل العلاقة بينهما علاقة خاص بعام، ونفي الخاص كما في (29) لا يستلزم نفي العام (30)، لأن عدم رؤية الكلب لا تنفي انعدام رؤية حيوان آخر، فقد يكون المتكلم قد رأى قطة أو نحوها، أما في حال الإثبات فقد تأثرت؛ لأن إثبات الخاص (27) يستلزم إثبات العام (28)، فرؤية الكلب يستلزم بالضرورة رؤية الحيوان.
(26) رأيت كلبا.
(27) رأيت كلبا.
(28) رأيت حيوانا.
(29) لم أر كلبا.
(30) لم أر حيوانا.
3،1 ، 1، 3- المفهوم
يقسم قرايس المفهوم إلى نوعين مفهوم وضعي conventional implicature ومفهوم تخاطبي conversational implicature.
،1 ، 1، 3، 1- المفهوم الوضعي
يسمى هذا النوع من المعنى مفهوما تمييزا له من المنطوق، ويوصف بأنه وضعي تمييزا له من المفهوم التخاطبي الذي سنتحدث عنه في المبحث القادم. ويقصد بالمفهوم الوضعي "كل ما تدل عليه القولة بصيغتها ولكنه لا يندرج في النسبة الخارجية التي تشير إليها"[16] حتى يحسب من المنطوق. ومن أمثلة المفهوم الوضعي ما يستنبط من القولة (31) التي يتحدد صحة منطوقها بصحة نسبتها الخارجية (أي المعنى الذي تشير إليه في الواقع الخارجي، وهو كونه –صلى الله عليه وسلم- فقيرا وأمينا أو لا)، وهي في ذلك مرادفة للقولة (32)، أما الاستدراك الذي تدل عليه ‘لكن’ فليس له صلة بمنطوق القولة بل بمفهومها الوضعي.
(31) كان محمد –صلى الله عليه وسلم- فقيرا ولكنه أمين.
(32) كان محمد –صلى الله عليه وسلم- فقيرا وأمينا.
وهكذا فإن (31) دلت على معنى لا يدخل في النسبة الخارجية ولكنه مفهوم من بعض العناصر اللغوية المنطوقة التي تؤلف جزءا من صيغة الجملة، وهو العنصر ‘لكن’ الدال على الاستدراك.
وطبقا لقرايس فإن السبب في عدم عدّ هذا المعنى من قبيل المنطوق أن من يستخدم (33) لم يُلزم نفسه بأنه قال: إن كون المتحدث عنه إنجليزيا يستلزم أن يكون شجاعا، وإن كان ذلك مفهوما من كلامه.
(33) - إنه إنجليزي، فهو إذن شجاع.[17]
ولعل من أهم خصائص المفهوم الوضعي التي تميزه من المفهوم التخاطبي أنه لا يفسر في ضوء ما يعرف بأصول التخاطب maxims of conversation.[18] بل إن معناه مفهوم بغض النظر عن السياق الذي قيل فيه، وأما كونه مفهوما وليس منطوقا فلكونه لا يندرج في النسبة الخارجية للقولة التي يفهم منها كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ومن يدقق في الأمثلة التي ذكرها قرايس وغيره يلحظ أنه مرتبط ببعض الأدوات أو حروف المعاني، أي أنه يرتبط بالمعنى الوضعي للأدوات.
،1 ، 1، 3، 2- المفهوم التخاطبي
يقصد بالمفهوم التخاطبي conversational implicature كل ما يستنتج من قولة ما –علاوة على النسبة الخارجية التي تشير إليها- بالاعتماد على أصول التخاطب، وليس بالرجوع إلى المعاني الوضعية أو الاستنتاجات المنطقية. ويقوم المفهوم التخاطبي على افتراض مفاده أن إسهامات المتخاطبين مترابطة بعضها ببعض ومحكومة بما يعرف بأسس التعاون maxims of cooperation التي تقتضي أن كلا من المتكلم وسامعه يسعيان إلى بلوغ تخاطب ناجح، ولتحقيق ذلك يؤدي كل منهما مهمته وفقا لتلك الأسس. وقد صاغ الفيلسوف اللساني بول قرايس تلك الأسس على النحو الآتي:
1- مبدأ الكمّ maxim of quantity:
(أ) تكلّم على قدر الحاجة فقط (القدر الذي يضمن تحقيق الغرض من التخاطب).
(ب) لا تتجاوز بإفادتك القدر المطلوب.
2- مبدأ الكيف maxim of quality:
(أ) لا تقل ما تعتقد كذبه.
(ب) لا تقل ما يعوزك فيه دليل بيّن.
3- : مبدأ الأسلوب maxim of manner
(أ) تجنب إبهام التعبير.
(ب) تجنب اللبس
(ت) أوجز كلامك (تجنب الإطناب الزائد).
(ث) ليكن كلامك مرتبا.
4-مبدأ المناسبة maxim of relation:
ليكن كلامك مناسبا لسياق الحال (be relevant).[19]
وتبدو أهمية هذه الأسس في أن المتلقي يفترض أن المتكلم يتبعها، ولذا فإن استنتاجاته مبنية على هذا الافتراض. فإذا قال المتكلم القولة (34) فسيستنتج المخاطب –بناء على مبدأ الكم- أن ليلى لم تأكل كل الخبيز. وذلك لأنه لو كان المقصود هو أن ليلى أكلت كل الخبيز لصرح المتكلم بذلك لأنه ملزم –بحكم مبدأ الكم- أن يتكلم على قدر الحاجة التي تفي بالغرض من المحادثة.
(34) أكلت ليلى بعض الخبيز.
(35) لم تأكل ليلى كل الخبيز.
وهكذا فإن المفهوم التخاطبي (35) لم يفهم من المعاني الوضعية للجملة (34)؛ إذ ليس في هذه الجملة من المعاني المعجمية أو القواعدية أو التركيبية والأسلوبية ما يمكن أن يعزى إليه ذلك المفهوم، كما أنه ليس استنتاجا منطقيا من (34) لأنه ليس تضمنا أو افتراضا تشتمل عليه، بل هو استنتاج مستمد من مبادئ التعاون التي تحكم عملية التخاطب، وعلى وجه التحديد فهو قضية يستلزمها اتباع مبدأ الكم.
وكما نلحظ هنا فإن المفهوم الوضعي (وكذلك المعنى الوضعي) يختلف بوضوح عن المفهوم التخاطبي في كون الأول اعتباطيا ( أي أن العلاقة فيه بين اللفظ والمعنى ليست ذاتية ولا منطقية بل هي عشوائية لا تخضع إلا للمواضعات اللغوية التي تعارف عليها أهل اللغة)، في حين أن استنباط الثاني من القولة إنما يكون بالقيام بعمليات عقلية.[20]
وعلى الرغم مما سبق تبقى الحدود واضحة إلى حد كبير بين المفهوم التخاطبي والمعنى المنطقي، والمعنى الوضعي، وقد ذكر تشومسكي مثالا جمع فيه بين الافتراض والمفهوم التخاطبي والمعنى الوضعي، وهو القولة (36) حيث يفترض قائلها أن لديه خمسة أطفال، وتدل بمفهومها على أن ثلاثة من أطفاله ليسوا في المدرسة الابتدائية، وتدل بمعناها الوضعي على أن اثنين من أطفاله الخمسة في المرحلة الابتدائية:
(36) اثنان من أطفالي الخمسة في المدرسة الابتدائية.[21]
،1 ، 1، 3، 2، 1- المفهوم التخاطبي العام والمفهوم التخاطبي الخاص
إن الفرق الأساسي بين المفهوم التخاطبي العام generalized conversational implicature والمفهوم التخاطبي الخاص particularized conversational implicature أن الأول يستنبط بمعزل عن السياق في حين لا يستنبط الثاني إلا بالاستعانة بالسياق. وخلافا للمفهوم التخاطبي الخاص الذي تُعدُّ كل أمثلة المفهوم التخاطبي المذكورة سابقا أمثلة له، فإنه من الصعب -كما يذكر قرايس- العثور على أمثلة ليست محل نزاع للمفهوم التخاطبي العام، وذلك لالتباسه بالمفهوم الوضعي. ومن الأمثلة القليلة التي ذكرها قرايس للمفهوم التخاطبي العام ما جاء في (37)؛ إذ كل من يستخدم هذه الجملة يفهم منه عادة أن المرأة التي قوبلت إنما هي امرأة أخرى أجنبية عنه، أي أنها ليست زوجته، ولا أمه، ولا أخته إلخ. وكذا فإن من يستمع إلى (38) يتبادر إلى ذهنه أن المنزل ليس منزله. وينبغي ألا نقفز هنا إلى استنتاج أن الأمر يرتبط بقواعد وضعية كأن يقال إن التفريق بين التنكير والتعريف على أساس أن الأول يفيد العموم والثاني يفيد الخصوص قد يكون حاسما في تحديد المراد، وذلك لأن ثمة أمثلة أخرى عكسية، كما في مثال قرايس المذكور في القولة (39) التي تدل عادة على أن الإصبع التي كسرها إنما هي إصبعه، وربما كان من الأوضح لو وضعنا كلمة ‘سنا’ بدلا من ‘إصبعا’.
(37) سعيد يقابل امرأة هذا المساء.
(38) سالم دخل منـزلا فوجد سلحفاة في الباب الأمامي.
(39) كسرت إصبعا أمس.[22]
وختاما للحديث عن التفريق بين المنطوق والمفهوم بأنواعه المختلفة يجدر بنا أن نشير إلى أن هذا التفريق محل نظر بين اللسانيين وفلاسفة اللغة، ولم يحظ بالتسليم المطلق وإن وجد قبولا لدى معظم المهتمين بهذا المجال. ومن أشهر المعارضين لهذا التفريق سبيربر Sperber وويلسون Wilson اللذان صرحا بأن تفريق قرايس بين ما ينطق what is said وما يفهم what is implicated تفريق غير سليم.[23] ومن الانتقادات التي وجهها سبيربر وويلسون لهذا التفريق حكمها على كل جوانب المعنى التي تخرج عن تحديد المراجع reference assignment (التي تحيل عليها ألفاظ الإشارة والضمائر والظروف المكانية والزمانية ونحوها من التعبيرات الإشارية) وعن الترجيح السياقي contextual disambiguation بأنها من قبيل المفهوم، وذهبا إلى القول بأن بعض مما عده قرايس من المفهوم هو في الواقع من قبيل المعنى غير الصريح، وأطلقا عليه مصطلح ‘المنطوق غير الصريح’ explicature الذي قصراه على ما كان ناشئا عن صيغة منطقية ضمن تركيبة القولة.[24] ويريان أنه بدلا من التفريق بين المنطوق الصريح والمفهوم الضمني –كما فعل قرايس- فالأولى أن يميز –بين القضية التي يجمع فيها المتكلم بين التعبير الصريح والتعبير غير الصريح، والاستنباطات المختلفة المستنتجة منها.[25] وقد آل هذا عند أتباع نظرية المناسبة إلى التفريق بين ما عرف بـ المنطوق غير الصريح explicature والمفهوم implicature.[26]
والظاهر أن هذا التفريق أقرب إلى طريقة ابن الحاجب الذي ضيق معنى المفهوم وأخرج المنطوق غير الصريح منه على نحو يتسم بالدقة والوضوح ويتميز فيه المفهوم من غيره من المعاني كما سنوضح في المبحث الآتي.
[1] Robert Harnish, “Logical Form and Implicature”. In Steven Davis (ed.), Pragmatics: A Reader (New York: Oxford University Press, 1991), p. 325.
[2]Jerrold M. Sadock, “On testing for Conversational Implicature”. In Steven Davis (ed.), Pragmatics: A Reader (New York: Oxford University Press, 1991), p. 366.
[3]Harnish (1991: 326).
[4]Peter Grundy, Doing Pragmatics (London: Edward Arnold, 1995) p. 82.
[5] فخر الدين الرازي، المحصول في علم أصول الفقه (بيروت: دار الكتب العلمية، 1988) 1:58. وانظر ايضا
Mohamed M. Yunis Ali, Medieval Islamic Pragmatics (London: Curzon Press, 2000) p. 156.
[6] Sadock (1991: 365).
[7] L. R, Horn “Presupposition and Implicature”. In: Lappin, S.: The Handbook of Contemporary Semantic Theory (Oxford: Blackwell, 1996). P.312.
[8] H. P. Grice, “Logic and Conversation”. In Steven Davis (ed.), Pragmatics: A Reader (New York: Oxford University Press, 1991), p.
[9] Grice (1991: 314-15).
[10] Grice (1991: 315).
[11] Grice (1991: 307).
[12] Grice (1991: 315).
[13] Grice (1991: 315).
[14] Sadock (1991: 367).
[15] Grundy (1995: 82).
[16] Sadock (1991: 366).
[17] Grice (1991: 307).
[18] The Concise Oxford Dictionary of Linguistics, Oxford University Press, 1997.
[19] Grice (1991: 307-9). See also “Logic and Conversation”, in Peter Cole and Jerry L. Morgan (eds.), Syntax and Semantics, 3: Speech acts (New York: Academic Press, 1975), pp. 41-68.
[20] See Deirdre Wilson and Dan Sperber, “Inference and Implicature” in Steven Davis, Pragmatics: A Reader (New York: Oxford University Press 1991) p. 378.
[21] N., Chomsky, “Some Empirical Issues in the Theory of Transformational Grammar” In S. Peters (ed.), Goals of Linguistic Theory. (Englewood Cliffs, N.J: Prentice-Hall, 1972) p. 112.
[22] See Grice (1991: 314).
[23] D. Wilson. and D. Sperber, "On Grice's theory of conversation.". In: P. Werth (Ed.): Conversation and Discourse. (London: Croom Helm, 1981), 155-178. See also D. Sperber & D. Wilson: "Mutual knowledge and relevance in theories of comprehension." In: N.V. Smith (Ed.): Mutual Knowledge. (London: Academic Press, 1982), 61-85.
[24] Sperber, D. and Wilson, D, Relevance: Communcation and cognition. (Oxford : Blackwell, 1986) p.182.
[25] Dan Sperber and Deidre Wilson, “Irony and the use-mention distinction”. In Peter Cole (ed), Radical Pragmatics, pp 295--318. (New York: Academic Press, 1981). P.159.
[26] Diane, Blakemore, Understanding Utterances: An Introduction to Pragmatics (Oxford: Blackwell Publishers, 1992): p. 57f.
يتسم تصنيف المعنى عند بول قرايس بشيء من الغموض، فترك ذلك صداه في المحاولات التي قام بها اللسانيون لرسم مشجر لهذا التصنيف، ولعل من أبرز المحاولات في ذلك محاولتي روبرت هارنيش Robert M. Harnish[1] (انظر شكل (ا)) وجيرولد صادُك Jerrold M. Sadock[2] (انظر شكل (2)).
ويتميز مشجر صادك بأنه أقرب لتوضيح ما عرضه قرايس بالفعل عن أنواع المعنى، وإن لم يوضح موضع المعنى المنطقي في تصنيف قرايس. ومهما يكن من أمر فقد اتفق المشجران على تقسيم المعنى إلى منطوق ومفهوم، وتفريع المفهوم إلى وضعي وغير وضعي، وتفريع غير الوضعي إلى تخاطبي وغيره، وتفريع المفهوم التخاطبي إلى عام وخاص. ولئن لم يشر قرايس إلى ما أشار إليه هارنيش وصادك في مشجريهما بالمفهوم غير الوضعي غير التخاطبي فإن القسمة المنطقية تقتضي ذلك لاستقصاء كل الاحتمالات الممكنة. وربما كان الخط المستقطع الذي يشير إلى هذا النوع من المفهوم في مشجر هارنيش يقصد به الإيماء إلى كون هذا المفهوم احتماليا وليس حقيقيا. وسنتحدث في المباحث القادمة عن كل نوع من أنواع المعنى عند بول قرايس.
1 ، 1، 1- المعنى الوضعي (أو المنطوق)
يفرق بول قرايس Paul Grice بين نوعين أساسيين من المعنى: المنطوق والمفهوم، ويقصد بالمنطوق (أو المعنى الوضعي للجملة) محتواها الدلالي الذي يشمل مجموع المعاني القواعدية (الصرفية والنحوية) والمعاني المعجمية التي تتضمنها، والتي يشير مجموعها إلى النسبة الخارجية (الموجودة خارج الذهن). كما يشمل أيضا تحديد الأوقات والمراجع التي تحيل عليها التعبيرات المشيرة.[3] وقد درج اللسانيون إلى مساواة معنى الجملة الوضعي بنسبتها الخارجية أو اشتراط صحتها its truth condition كما يعرف في اللسانيات. ويمكن أن يمثل لذلك بـ (1) التي لا يمكن أن تكون صادقة إلا إذا كانت لبريطانيا ملكة وكانت من أثرى سيدات العالم. وهذا المعنى يفهم من مجموع المعاني القواعدية والمعجمية التي تتضمنها الجملة ولا يحتاج استنباطه إلى استدلالات منطقية ولا اعتماد على أصول تخاطبية.
(1) ملكة بريطانيا من أثرى سيدات العالم.
ويتسم المعنى الوضعي كما يذكر قراندي Grundy بعدم قبوله للإلغاء أو الإبطال دون الوقوع في تناقض،[4] إذ لا يمكن أن نضيف على الجملة السابقة العبارة (2) مثلا دون أن نقع في تناقض بين (1) و (2).
(2) ولكنها فقيرة.
وإذا ما أُقِرّ معيار قبول الإلغاء هذا لاكتشاف المعنى الوضعي، فسيصبح كلٌّ من التضمن والافتراض داخلين في تعريف المعنى الوضعي، ويبدو هذا ما ذهب إليه معظم الأصوليين عندما أقروا بأن دلالة التضمن من قبيل المعنى الوضعي، وإن خالف في ذلك الرازي وأتباعه.[5] وذلك لأن التضمن والافتراض أيضا لا يقبلان الإلغاء كما سنبين في موضع الحديث عنهما.
وهكذا فإن ما يقصده قرايس بالمنطوق what is said إنما هو المحتوى المنطقي للقولة اللغوية أو النسبة الخارجية the truth condition التي تشير إليها في الخارج. وكل ما يخرج عن هذه النسبة فهو داخل في المفهوم implicature. ومن الواضح أن تعريف المفهوم عنده إنما هو تعريف سلبي يشمل مجموعة غير متناغمة من المعاني لا يجمع بينها غير كونها لا تدخل في المنطوق.[6]
ويرتبط تفريق قرايس بين المنطوق والمفهوم كما يذكر هورن Horn بالتفريق التقليدي بين صيغة الجملة المرتبطة بنسبتها الخارجية ومحتواها الذي لا يرتبط بنسبتها الخارجية.[7] ومن ناحية أخرى يرتبط التفريق بين المنطوق والمفهوم كذلك بين علم الدلالة semantics وعلم التخاطب pragmatics، فبينما ينتمي الأول إلى الدلالة يندرج الآخر في إطار التخاطب.
وقد قدم قرايس بعض المعايير التي تميز المفهوم التخاطبي conversational implicature بوضوح من التضمن entailment ونحوه من المعاني المنطقية والوضعية يمكن تلخيصها في الآتي:
(أ) أن المفهوم التخاطبي يحتاج إلى ‘تأمّل’ worked out[8] تحكمه أصول التعاون ‘Cooperative Principles’.
(ب) أنه قابل للإلغاء cancelability أو للإبطال [9]defeasible وهو يعني أنه من الممكن إبطاله، كما في (3) التي ينشأ عنها المفهوم (4) حيث يمكن إبطاله أو إلغاؤه كما في (5)، خلافا للتضمن الذي لا يمكن فيه ذلك دون الوقوع في تناقض صريح كما في (6) التي تتضمن ضرورة (7)؛ ولذا لا يمكن إلغاء ما تتضمنه بقولنا (8) إلا بالوقوع في تناقض بين (6) و(7).
(3) أحمد يملك سيّارتين.
(4) أحمد يملك سيّارتين فقط لا غير.
(5) أحمد يملك سيّارتين، لا بل ثلاث.
(6) قابيل قتل هابيلا.
(7) هابيل مات.
(8) قابيل قتل هبيلا، ولكن هابيلا لم يمت.
(ت) أنه غير قابل للانفكاك non-detachability،[10] ويقصد به أن تغيير صيغة القولة لفظا مع عدم المساس بالمعنى لا يؤدي إلى إلغاء المفهوم التخاطبي؛ لارتباطه بالمعنى وليس باللفظ؛ فأي تغيير في القولة (9) إلى أي من مرادفاتها الممكنة لا يؤول إلى إلغاء مفهومها في (10).[11]
(9) في الغنم السائمة زكاة.
(10) ليس في الغنم المعلوفة زكاة.
(ث) أنه ليس جزءا من الصيغة المنطوقة، أي أنه ليس وضعيا، ولذا فإن المنطوق قد يكون صادقا والمفهوم كاذبا.[12]
(ج) أنه لا يستمد من المنطوق بل من الطريقة التي نطق بها.[13]
(ح) أنه ظني الدلالة indeterminate.[14]
ويمكن أن نضيف إلى ذلك
(خ) قابلية التأكيد reinforceability، ويقصد بها إمكان تأكيد المفهوم الذي يفهم من قولة ما دون الوقوع في الحشو. ويمكن أن يمثل لذلك بـ (11) التي يفهم منها (12) حيث أضيف إليها المؤكد ‘لا في المعلوفة’ في (13) دون أن تكون الإضافة حشوا، خلافا للتضمن الذي لا يكون تأكيده إلا حشوا كما إذا ما أكدنا (15) المفهومة بدلالة التضمن من (14) بـقولنا (16)، فيؤدي ذلك إلى حشو جلي غير مقبول.
(11) في الغنم السائمة زكاة.
(12) ليس في الغنم المعلوفة زكاة.
(13) في الغنم السائمة، لا في المعلوفة، زكاة.
(14) قتل قابيل هابيلا.
(15) مات هابيل.
(16) فمات هابيل.
3،1 ، 1، 2- المعنى المنطقي
يشمل المعنى المنطقي implication نوعين من المعاني هما التضمن والافتراض.
3،1 ، 1، 2، 1- التضمن
يصدق على قضية ما (ق) أنها تتضمن أخرى (ك) إذا كان الحال أنه كلما كانت ق صادقة كانت ك بالضرورة صادقة. فالتضمن entailment إذن علاقة بين جملتين ق و ك؛ حيث ق تتضمن ك إذا كان صدق ك تابعا ضرورة لصدق ق. تأمل –على سبيل المثال- (17) و (18) حيث ق (17) تتضمن ك (18) بحيث كلما كانت (17) صادقة كانت (18) صادقة. أما إذا كانت ق كاذبة -بأن لم ير المتكلم كلبا- فلا يشترط أن تكون ك كذلك بل قد تكون ك صادقة إذا رأى المتكلم حيوانا آخر أو كاذبة إن لم ير حيوانا على الإطلاق.
(17) رأيت كلبا.
(18) رأيت حيوانا.
3،1 ، 1، 2، 2- الافتراض
الافتراض presupposition هو علاقة بين جملتين ق و ك حيث ق (19) تفترض ك (20) إذا كانت ك صادقة سواء أكانت ق صادقة (كما في (19)) أم كاذبة (كما في (21)).
(19) -توقف سليم عن التدخين
(20) سليم دخّن
(21) لم يتوقف سليم عن التدخين
والافتراض مفهوم يختلط كثيرا بمفهوم التضمن حتى عرفه بعضهم بأنه "تضمن لا يتأثر بالنفي" [15]“an entailment that survives negation” وهذا يعني أن كلا من (19) و(21) (على الرغم من أن الثانية منهما تنفي أولاهما) تفترض أن سليما كان قد دخّن.
وعلى الرغم من أنني لم أعثر على تعليل -فيما قرأت من كتب اللسانيين- لظاهرة نجاة الافتراض من النفي وتأثر التضمن به، فالظاهر أن السبب هو أنه في الافتراض تتكوّن (22) مثلا من (23) و(24) على نحو تبدو فيه الأولى سابقة زمانيا ومنطقيا للثانية بحيث يستلزم إثبات الثانية إثبات الأولى، لأن اللاحق لا يتحقق إلا بإثبات السابق، ولكن لا يؤدي نفي الثانية كما في (25) إلى إلغاء الأولى (23)؛ لأنه قد يثبت السابق دون وقوع لاحق.
(22) علي توقف عن التدخين
(23) علي دخن.
(24) علي توقف عن التدخين.
(25) علي لم يتوقف عن التدخين.
أما في حالة التضمن فإن الأولى (27) ليست سابقة ولا تالية للثانية (28)، إذ الرتبة بينهما غير واردة، بل العلاقة بينهما علاقة خاص بعام، ونفي الخاص كما في (29) لا يستلزم نفي العام (30)، لأن عدم رؤية الكلب لا تنفي انعدام رؤية حيوان آخر، فقد يكون المتكلم قد رأى قطة أو نحوها، أما في حال الإثبات فقد تأثرت؛ لأن إثبات الخاص (27) يستلزم إثبات العام (28)، فرؤية الكلب يستلزم بالضرورة رؤية الحيوان.
(26) رأيت كلبا.
(27) رأيت كلبا.
(28) رأيت حيوانا.
(29) لم أر كلبا.
(30) لم أر حيوانا.
3،1 ، 1، 3- المفهوم
يقسم قرايس المفهوم إلى نوعين مفهوم وضعي conventional implicature ومفهوم تخاطبي conversational implicature.
،1 ، 1، 3، 1- المفهوم الوضعي
يسمى هذا النوع من المعنى مفهوما تمييزا له من المنطوق، ويوصف بأنه وضعي تمييزا له من المفهوم التخاطبي الذي سنتحدث عنه في المبحث القادم. ويقصد بالمفهوم الوضعي "كل ما تدل عليه القولة بصيغتها ولكنه لا يندرج في النسبة الخارجية التي تشير إليها"[16] حتى يحسب من المنطوق. ومن أمثلة المفهوم الوضعي ما يستنبط من القولة (31) التي يتحدد صحة منطوقها بصحة نسبتها الخارجية (أي المعنى الذي تشير إليه في الواقع الخارجي، وهو كونه –صلى الله عليه وسلم- فقيرا وأمينا أو لا)، وهي في ذلك مرادفة للقولة (32)، أما الاستدراك الذي تدل عليه ‘لكن’ فليس له صلة بمنطوق القولة بل بمفهومها الوضعي.
(31) كان محمد –صلى الله عليه وسلم- فقيرا ولكنه أمين.
(32) كان محمد –صلى الله عليه وسلم- فقيرا وأمينا.
وهكذا فإن (31) دلت على معنى لا يدخل في النسبة الخارجية ولكنه مفهوم من بعض العناصر اللغوية المنطوقة التي تؤلف جزءا من صيغة الجملة، وهو العنصر ‘لكن’ الدال على الاستدراك.
وطبقا لقرايس فإن السبب في عدم عدّ هذا المعنى من قبيل المنطوق أن من يستخدم (33) لم يُلزم نفسه بأنه قال: إن كون المتحدث عنه إنجليزيا يستلزم أن يكون شجاعا، وإن كان ذلك مفهوما من كلامه.
(33) - إنه إنجليزي، فهو إذن شجاع.[17]
ولعل من أهم خصائص المفهوم الوضعي التي تميزه من المفهوم التخاطبي أنه لا يفسر في ضوء ما يعرف بأصول التخاطب maxims of conversation.[18] بل إن معناه مفهوم بغض النظر عن السياق الذي قيل فيه، وأما كونه مفهوما وليس منطوقا فلكونه لا يندرج في النسبة الخارجية للقولة التي يفهم منها كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ومن يدقق في الأمثلة التي ذكرها قرايس وغيره يلحظ أنه مرتبط ببعض الأدوات أو حروف المعاني، أي أنه يرتبط بالمعنى الوضعي للأدوات.
،1 ، 1، 3، 2- المفهوم التخاطبي
يقصد بالمفهوم التخاطبي conversational implicature كل ما يستنتج من قولة ما –علاوة على النسبة الخارجية التي تشير إليها- بالاعتماد على أصول التخاطب، وليس بالرجوع إلى المعاني الوضعية أو الاستنتاجات المنطقية. ويقوم المفهوم التخاطبي على افتراض مفاده أن إسهامات المتخاطبين مترابطة بعضها ببعض ومحكومة بما يعرف بأسس التعاون maxims of cooperation التي تقتضي أن كلا من المتكلم وسامعه يسعيان إلى بلوغ تخاطب ناجح، ولتحقيق ذلك يؤدي كل منهما مهمته وفقا لتلك الأسس. وقد صاغ الفيلسوف اللساني بول قرايس تلك الأسس على النحو الآتي:
1- مبدأ الكمّ maxim of quantity:
(أ) تكلّم على قدر الحاجة فقط (القدر الذي يضمن تحقيق الغرض من التخاطب).
(ب) لا تتجاوز بإفادتك القدر المطلوب.
2- مبدأ الكيف maxim of quality:
(أ) لا تقل ما تعتقد كذبه.
(ب) لا تقل ما يعوزك فيه دليل بيّن.
3- : مبدأ الأسلوب maxim of manner
(أ) تجنب إبهام التعبير.
(ب) تجنب اللبس
(ت) أوجز كلامك (تجنب الإطناب الزائد).
(ث) ليكن كلامك مرتبا.
4-مبدأ المناسبة maxim of relation:
ليكن كلامك مناسبا لسياق الحال (be relevant).[19]
وتبدو أهمية هذه الأسس في أن المتلقي يفترض أن المتكلم يتبعها، ولذا فإن استنتاجاته مبنية على هذا الافتراض. فإذا قال المتكلم القولة (34) فسيستنتج المخاطب –بناء على مبدأ الكم- أن ليلى لم تأكل كل الخبيز. وذلك لأنه لو كان المقصود هو أن ليلى أكلت كل الخبيز لصرح المتكلم بذلك لأنه ملزم –بحكم مبدأ الكم- أن يتكلم على قدر الحاجة التي تفي بالغرض من المحادثة.
(34) أكلت ليلى بعض الخبيز.
(35) لم تأكل ليلى كل الخبيز.
وهكذا فإن المفهوم التخاطبي (35) لم يفهم من المعاني الوضعية للجملة (34)؛ إذ ليس في هذه الجملة من المعاني المعجمية أو القواعدية أو التركيبية والأسلوبية ما يمكن أن يعزى إليه ذلك المفهوم، كما أنه ليس استنتاجا منطقيا من (34) لأنه ليس تضمنا أو افتراضا تشتمل عليه، بل هو استنتاج مستمد من مبادئ التعاون التي تحكم عملية التخاطب، وعلى وجه التحديد فهو قضية يستلزمها اتباع مبدأ الكم.
وكما نلحظ هنا فإن المفهوم الوضعي (وكذلك المعنى الوضعي) يختلف بوضوح عن المفهوم التخاطبي في كون الأول اعتباطيا ( أي أن العلاقة فيه بين اللفظ والمعنى ليست ذاتية ولا منطقية بل هي عشوائية لا تخضع إلا للمواضعات اللغوية التي تعارف عليها أهل اللغة)، في حين أن استنباط الثاني من القولة إنما يكون بالقيام بعمليات عقلية.[20]
وعلى الرغم مما سبق تبقى الحدود واضحة إلى حد كبير بين المفهوم التخاطبي والمعنى المنطقي، والمعنى الوضعي، وقد ذكر تشومسكي مثالا جمع فيه بين الافتراض والمفهوم التخاطبي والمعنى الوضعي، وهو القولة (36) حيث يفترض قائلها أن لديه خمسة أطفال، وتدل بمفهومها على أن ثلاثة من أطفاله ليسوا في المدرسة الابتدائية، وتدل بمعناها الوضعي على أن اثنين من أطفاله الخمسة في المرحلة الابتدائية:
(36) اثنان من أطفالي الخمسة في المدرسة الابتدائية.[21]
،1 ، 1، 3، 2، 1- المفهوم التخاطبي العام والمفهوم التخاطبي الخاص
إن الفرق الأساسي بين المفهوم التخاطبي العام generalized conversational implicature والمفهوم التخاطبي الخاص particularized conversational implicature أن الأول يستنبط بمعزل عن السياق في حين لا يستنبط الثاني إلا بالاستعانة بالسياق. وخلافا للمفهوم التخاطبي الخاص الذي تُعدُّ كل أمثلة المفهوم التخاطبي المذكورة سابقا أمثلة له، فإنه من الصعب -كما يذكر قرايس- العثور على أمثلة ليست محل نزاع للمفهوم التخاطبي العام، وذلك لالتباسه بالمفهوم الوضعي. ومن الأمثلة القليلة التي ذكرها قرايس للمفهوم التخاطبي العام ما جاء في (37)؛ إذ كل من يستخدم هذه الجملة يفهم منه عادة أن المرأة التي قوبلت إنما هي امرأة أخرى أجنبية عنه، أي أنها ليست زوجته، ولا أمه، ولا أخته إلخ. وكذا فإن من يستمع إلى (38) يتبادر إلى ذهنه أن المنزل ليس منزله. وينبغي ألا نقفز هنا إلى استنتاج أن الأمر يرتبط بقواعد وضعية كأن يقال إن التفريق بين التنكير والتعريف على أساس أن الأول يفيد العموم والثاني يفيد الخصوص قد يكون حاسما في تحديد المراد، وذلك لأن ثمة أمثلة أخرى عكسية، كما في مثال قرايس المذكور في القولة (39) التي تدل عادة على أن الإصبع التي كسرها إنما هي إصبعه، وربما كان من الأوضح لو وضعنا كلمة ‘سنا’ بدلا من ‘إصبعا’.
(37) سعيد يقابل امرأة هذا المساء.
(38) سالم دخل منـزلا فوجد سلحفاة في الباب الأمامي.
(39) كسرت إصبعا أمس.[22]
وختاما للحديث عن التفريق بين المنطوق والمفهوم بأنواعه المختلفة يجدر بنا أن نشير إلى أن هذا التفريق محل نظر بين اللسانيين وفلاسفة اللغة، ولم يحظ بالتسليم المطلق وإن وجد قبولا لدى معظم المهتمين بهذا المجال. ومن أشهر المعارضين لهذا التفريق سبيربر Sperber وويلسون Wilson اللذان صرحا بأن تفريق قرايس بين ما ينطق what is said وما يفهم what is implicated تفريق غير سليم.[23] ومن الانتقادات التي وجهها سبيربر وويلسون لهذا التفريق حكمها على كل جوانب المعنى التي تخرج عن تحديد المراجع reference assignment (التي تحيل عليها ألفاظ الإشارة والضمائر والظروف المكانية والزمانية ونحوها من التعبيرات الإشارية) وعن الترجيح السياقي contextual disambiguation بأنها من قبيل المفهوم، وذهبا إلى القول بأن بعض مما عده قرايس من المفهوم هو في الواقع من قبيل المعنى غير الصريح، وأطلقا عليه مصطلح ‘المنطوق غير الصريح’ explicature الذي قصراه على ما كان ناشئا عن صيغة منطقية ضمن تركيبة القولة.[24] ويريان أنه بدلا من التفريق بين المنطوق الصريح والمفهوم الضمني –كما فعل قرايس- فالأولى أن يميز –بين القضية التي يجمع فيها المتكلم بين التعبير الصريح والتعبير غير الصريح، والاستنباطات المختلفة المستنتجة منها.[25] وقد آل هذا عند أتباع نظرية المناسبة إلى التفريق بين ما عرف بـ المنطوق غير الصريح explicature والمفهوم implicature.[26]
والظاهر أن هذا التفريق أقرب إلى طريقة ابن الحاجب الذي ضيق معنى المفهوم وأخرج المنطوق غير الصريح منه على نحو يتسم بالدقة والوضوح ويتميز فيه المفهوم من غيره من المعاني كما سنوضح في المبحث الآتي.
[1] Robert Harnish, “Logical Form and Implicature”. In Steven Davis (ed.), Pragmatics: A Reader (New York: Oxford University Press, 1991), p. 325.
[2]Jerrold M. Sadock, “On testing for Conversational Implicature”. In Steven Davis (ed.), Pragmatics: A Reader (New York: Oxford University Press, 1991), p. 366.
[3]Harnish (1991: 326).
[4]Peter Grundy, Doing Pragmatics (London: Edward Arnold, 1995) p. 82.
[5] فخر الدين الرازي، المحصول في علم أصول الفقه (بيروت: دار الكتب العلمية، 1988) 1:58. وانظر ايضا
Mohamed M. Yunis Ali, Medieval Islamic Pragmatics (London: Curzon Press, 2000) p. 156.
[6] Sadock (1991: 365).
[7] L. R, Horn “Presupposition and Implicature”. In: Lappin, S.: The Handbook of Contemporary Semantic Theory (Oxford: Blackwell, 1996). P.312.
[8] H. P. Grice, “Logic and Conversation”. In Steven Davis (ed.), Pragmatics: A Reader (New York: Oxford University Press, 1991), p.
[9] Grice (1991: 314-15).
[10] Grice (1991: 315).
[11] Grice (1991: 307).
[12] Grice (1991: 315).
[13] Grice (1991: 315).
[14] Sadock (1991: 367).
[15] Grundy (1995: 82).
[16] Sadock (1991: 366).
[17] Grice (1991: 307).
[18] The Concise Oxford Dictionary of Linguistics, Oxford University Press, 1997.
[19] Grice (1991: 307-9). See also “Logic and Conversation”, in Peter Cole and Jerry L. Morgan (eds.), Syntax and Semantics, 3: Speech acts (New York: Academic Press, 1975), pp. 41-68.
[20] See Deirdre Wilson and Dan Sperber, “Inference and Implicature” in Steven Davis, Pragmatics: A Reader (New York: Oxford University Press 1991) p. 378.
[21] N., Chomsky, “Some Empirical Issues in the Theory of Transformational Grammar” In S. Peters (ed.), Goals of Linguistic Theory. (Englewood Cliffs, N.J: Prentice-Hall, 1972) p. 112.
[22] See Grice (1991: 314).
[23] D. Wilson. and D. Sperber, "On Grice's theory of conversation.". In: P. Werth (Ed.): Conversation and Discourse. (London: Croom Helm, 1981), 155-178. See also D. Sperber & D. Wilson: "Mutual knowledge and relevance in theories of comprehension." In: N.V. Smith (Ed.): Mutual Knowledge. (London: Academic Press, 1982), 61-85.
[24] Sperber, D. and Wilson, D, Relevance: Communcation and cognition. (Oxford : Blackwell, 1986) p.182.
[25] Dan Sperber and Deidre Wilson, “Irony and the use-mention distinction”. In Peter Cole (ed), Radical Pragmatics, pp 295--318. (New York: Academic Press, 1981). P.159.
[26] Diane, Blakemore, Understanding Utterances: An Introduction to Pragmatics (Oxford: Blackwell Publishers, 1992): p. 57f.